الأربعاء، 22 أكتوبر 2008


مركـز دراسات
العالـم الإسلامـى



الأصولية الانجيلية
أو
الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكى

محمد السماك

مدخـل

تقول اليهودية فى المسيحية :
(( يسمح لليهودى أن يكذب ويشهد زورًا للإيقاع بالمسيحى . فاسم الرب لا يدنس ولا يحدف به ، حين نكذب على المسيحيين )) .
(( يجب على اليهود السعى الدائم لغش المسيحيين )) .
(( من يفعل خيراً للمسيحيين ، فلن يقوم من قبره قط )) .
(( .. والآن دعونا نوضح لكم كيف مضينا فى سبيل الإسراع بقصم ظهر الكنيسة الكاثوليكية ، فاستطعنا التسرب إلى دخائلها الخصوصية ، وأغوينا البعض من رعيتها ( كهنتها الداخليين ) ليكونوا رواداً فى حركتنا ، ويعملون من أجلنا .
أمرنا عدداً من أبنائنا بالدخول فى جسم الكاثوليكية ، مع تعليمات صريحة بوجوب العمل الدقيق والنشاط الكفيل بتخريب الكنيسة من قلبها ، عن طريق اختلاق فضائح داخلية . ونكون بذلك قد عملنا بنصيحة أمير اليهود ، الذى أوصانا بحكمة بالغة : دعوا بعض أبنائكم يكونوا كهنة ورعاة أبرشيات ، فيهدموا كنائسهم . ومع الأسف الشديد ، لم يبرهن جميع اليهود من أبناء العهد عن إخلاصهم للمهمة الموكولة إليهم ، فخان كثيرون العهد ، لكن الآخرين حافظوا على عهدهم ، ونفذوا مهماتهم بشرف وأمانة .
نحن آباء جميع الثورات التى قامت فى العالم ، حتى تلك التى انقلبت علينا أحياناً ، ونحن أيضاً سادة الحرب والسلام ، بدون منازع . ونسيطيع التصريح اليوم بأننا نحن الذين خلقنا حركة الإصلاح الدينى للمسيحية . فكالفين كان واحداً من أولادنا ، يهودى الأصل ، أمر بحمل الأمانة ، بتشجيع المسؤولين اليهود ودعم المال اليهودى ، فنفذ مخطط الإصلاح الدينى . كما أذعن مارتن لوثر لإيحاءات أصدقائه اليهود ، وهنا أيضا ، نجح برنامجه ضد الكنيسة الكاثوليكية ، بإرادة المسؤولين اليهود وتمويلهم .
ونحن نشكر البروتستانت على إخلاصهم لرغباتنا ، برغم أن معظمهم ، وهم يخلصون الإيمان لدينهم ، لا يعون مدى إخلاصهم لنا . إننا جد ممتنون للعون القيم الذى قدموه لنا فى حربنا ضد معاقل المدينة المسيحية ، استعداداً لبلوغ مواقع السيطرة الكاملة على العالم .
حتى اليوم تمكنا من قلب الأنظمة القائمة فى معظم ممالك اوروبا ، والبقية آتية لا ريب عما قريب . فروسيا شرعت فى تمهيد الطريق لمسيرتنا . فرنسا ، بحكومتها الماسونية ، تحت إصبعنا . انجلترا ، باعتمادها على تمويلنا ، تحت قدمنا ، ولكونها بروتستانتية فهى معولنا فى القضاء على الكنيسة الكاثوليكية . أما إسبانيا والمكسيك فهما دميتان بأيدينا . وثمة دول عديدة ، علاوة على الولايات المتحدة الأمريكية ، واقعة فى شراكنا
إن معظم صحف العالم تعمل تحت سيطرتنا ، فلنغذ عن طريقها ، - بقوة وفعالية أكثر – الحقد العالمى على الكنيسة الكاثوليكية .
ولنمض ، لدعم وتقوية مخططاتنا ، بتسميم أخلاق الأغيار ، ننشر روح الثورة بين الجماهير ، نشجعها على احتقار الوطنية ، وازدراء وحدة العائلة والارتباط بمحبتها ، واعتبار الدين ، أى دين ، هراء ومضيعة للوقت وقضية سبقها العصر ولم تعد تتماشى مع متطلباته .
ثم أخيرا ، لنتذكر دائماً أن ملك اليهود المنتظر لن يرضى بحكم هذا العالم ، قبل خلع البابا عن كرسيه فى روما ، والإطاحة بجميع ملوك العالم )) .

وتقول المسيحية فى اليهودية :
(( يعتبر اليهود خطراً على جميع شعوب العالم ، وخاصة على الشعوب المسيحية )) .
(( إن القوى ذاتها التى (( صلبت المسيح )) طيلة 1900 سنة ، تسعى اليوم إلى (( صلب )) كنيسته . لقد فرضعلى المسيحية ، فى عصرنا الراهن ، نظال عظيم ، نهايته ستحدد مصير المسيحية ، حياة أو موتاص ، لكن معظم القادة المسيحيين لم يعوا ذلك بعد . إن الشيوعية – اليهودية العالمية – التى نجحت فى إذلال شعوب الأرض ، تترقب الفرصة المواتية الآن لسحق المسيحية سحقاً كاملاً )) .
(( كل ما أتى به المسيح ، بوحى من الرب ، لايعنى أى شىء عند اليهود ! . لقد أضنانى البحث الطويل ، عبثاً ، فى معظم كتب اليهود عن عبارة تعكس شيئاً من شعور إنسانى نبيل نحو المسيح ..
وأنا أعترف بأننى ، قبل أن أفعل ذلك ، لم أكن أتوقع إطلاقا أن أجد شيئاً عن أحترام المسيح بين صفحات هذه الكتب . لكنى عرفت أن اليهودى الذى ينتابه مثل هذا الشعور النبيل يفقد يهوديته فوراً ، ويغدو غير يهودى بالمرة .
ففيما نجد فى قرآن محمد أفكاراً تعبر عن الأهتمام بالمسيح والاحترام العميق لشخصه ، نقرأ ليهودى فى القرن التاسع عشر ( غرايتيس ) من المفروض أنه من المثقفين ، وصفه للمسيح بقوله إنه (( المولود الجديد المقتنع بالموت )) . . أما عن فكرة الصليب فيقول عنه : إن اليهود ليسوا فى حاجة إلى مثل هذا الرمز الذى يولد شعوراً متشنجاً .. من أجل رفع مستوى عقائدهم الروحية )) . بل إن هناك ما هو أخطر من ذلك بكثير . ففى كتاب أصدره سنة 1880 يهودى إسبانى ، وهو موسى دوليون ، يصف المسيح بأنه (( كلب ميت )) ، وأنه (( مدفون فى كومة روث )) فى أواخر القرن التاسع عشر ، راح اليهود يصدرون طبعات بالعبرية يوضحون فيها (( الفقرات السرية )) من التلمود ، كى لا يثيروا حقدنا عليهم ، فحذقت من الطبعات غير العبرية الألقاب والنعوت التى اصطلحوا على تسمية المسيح بها ، مثل : المجنون ، الساحر ، النجس ، الكلب ، ابن الحرام ، الوثنى ، ابن الشهوة ... إلخ إلى جانب مسمياتهم لأمة العذراء الطاهرة )) .
(( يتضمن التلمود كل الكفر والإلحاد والخسة )) .

ويقول الإسلام فى اليهودية والمسيحية :
(( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذى أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون )) .

(( وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون * وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومناهجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فى ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون )) .
(( ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم * ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون )) .

(( قل يا أهل الكتاب لستم على شىء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فى تأس على القوم الكافرين ))

(( قل ياأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل )) .

(( يأهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون * يأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون )) .

(( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا فى الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون )) .
(( وإن من اهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله ى يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب )) .

(( يأهل الكتاب لا تغلوا فى دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما فى السموات وما فى الأرض وكفى بالله وكيلا )) .
(( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئاأ إن اراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن فى الأرض جميعاً ولله ملك السموات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شىء قدير )) .

عندما لبت الدول الأوروبية نداء البابا أوربان الثانى فى العام 1905 وشنت سلسلة الحملات الصلبية على العالم الإسلامى كان اليهود فى أوروبا وفى العالم الإسلامى معاً من ضحاياها .
وعندما سقطت الأندلس من يد المسلمين فى العام 1492 تعرض اليهود مع المسلمين إلى حملات الإبادة وهاجر بعض من نجا منهم مع المسلمين إلى شمال إفريقيا . وهاجر بعضهم الآخر إلى أوروبا .
وعندما تعرض العالم الإسلامى لموجات التتار والمغول لم تميز تلك الموجات بين المسلمين واليهود . بل إن بعض ملوك التتار تحالفوا مع البيزنطيين وحتى مع البابا نفسه ضد المسلمين .
كان اليهود يتعرضون للاضطهاد والتحقير فى المجتمعات الأوروبية وهى فى مراحلها المختلفة ، حاول اليهود معالجة هذه المشاعر بشتى الوسائل ، وكان الدين انجعها . سربوا إلى الكنيسة عبر حركة الإصلاح الدينى معتقدات تقول إنهم شعب الله المختار ، وأن الله يحب من يحسن إليهم ويعاقب من يعتدى ععليهم .
فكرة (( الشعب )) طرحت فكرة (( الوطن )) ، إذ كيف يكون لله شعب ولا يكون لشعب الله وطن ؟ ؟
كان لابد من تبرير دينى لفكرة الوطن ، فالذين تأثروا بتهويد الكنيسة البروتستنتية ( وخاصة من الكلفانيين والتطريين ) آمنوا بتفسير وضعى لنبوءات توراتية تقول : إن المسيح سيظهر للمرة الثانية وأن ظهوره سيتم بين اليهود وفى صهيون ، وأنه لابد من أجل ذلك من إقامة صهيون ومن إعادة تجميع اليهود فيها ، حتى إذا ظهر المسيح ، يخلص المؤمنين من العذاب بعد معركة – هرمجدون – ويتربع على عرش العالم مدة ألف سنة ( الألفية ) إلى أن تقوم الساعة .
أما الذين لم يتأثروا بالتهويد فقد وجدوا فى هذه النظرية فرصة لتشجيع اليهود على الهجرة من مجتمعاتهم إلى فلسطين للتخلص منهم تحت ستار مساعدتهم على إقامة دولة صهيون .
الاستراتيجيون الأوروبيون ( من الانجليز والفرنسيين ثم الأمريكان ) ربطوا بين مصالح إمبراطورياتهم فى المشرق العربى وبين هذه المعتقدات ، انطلقت الصهيونية كحركة سياسية تقول بإقامة وطن يهودى فى فلسطين ، من الكنيسة المسيحية ( البروتستنتية ) ، واستمرت زهاء ثلاثمئة عام قبل أن يعقد المؤتمر الصهيونى اليهودى الأول فى (( بال )) فى سويسرا فى العام 1897 .
كان العداء للإسلام والرغبة فى قهر العرب من العوامل الرئيسية التى شجعت (( الصهيونية المسيحية )) على تجاهل الحقوق الطبيعية للفلسطينيين ، الشعار الذى رفع منذ منتصف القرن التاسع عشر والذى يقول عن فلسطين : أنها (( أرض بلا شعب ، لشعب بلا أرض )) ، ينكر حتى وجود الشعب الفسطينى بمسلميه وبميحييه على حد سواء .
وقفت الكنيسة الكاثوليكية ضد حركة (( الإصلاح )) الدينى . ووقفت ضد مبدأ إقامة وطن يهودى فى فلسطين . وتصدمت للمشاريع الصهيونية ( المسيحية واليهودية ) قبل وبعد صدور وعد بلفور ، وحت قبل وبعد اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل ، كانت الكنائس المشرقية أكثر تطرفاً فى رفضها للصهيونية وإن لم تكن بالضرورة أكثر فعالية ، غير أن هذه المواقف لم تجد جسراً تعبر عليه إلى عمل إسلامى مسيحى مشترك حتى الآن .
مهمة هذه الدراسة هى بكل بساطة ، محاولة وضع لبنة فى صرح هذا الجسر الذى لابد من أن يقوم .


محطات تاريخية بارزة
1453 سقوط القسطنطسنسة بيد الاتراك المسلمين .
1492 أكتشاف أمريكا .
1492 سقوط الأندلس وهجرة قسم من اليهود مع المسلمين إلى شمال إفريقيا ، وهجرة قسم
آخر منهم إلى فرنسا وانجلترا والأراضى المنخفضة .
1523 حركة الإصلاح الدينى فى أروبا ، وصدور كتاب مارتن لوثر : (( عيسى ولد يهوديا ))
1544 صدور كتاب لوثر : (( فيما يتعلق باليهود وأكاذيبهم )) .
1565 الثورة البروتستنتية ضد الكاثوليكية فى الأراضى المنخفضة ( بلجيكا وهولندا اليوم )
1581الباباغريغورى الثالث عشر يصدر حكم الإدانة ضد اليهود .
1609 هزيمة القوات الكاثوليكية وقيام جمهورية هولندا على أساس المبادىء البروتستنتية الكالفينية ( نسبة إلى كالفن ) .
1649 نداء العالمين اللاهوتيين الانجليزيين من هولندا جوانا وألينزر كارترايت إلى الحكومة
1655 أوليفر كرومويل يتبنى النداء ويلغى قانون النفى الذى أصدره الملك إدوارد ضد اليهود الانجليزية للمطالبة بأن يكون للشعب الانجليزى ولشعب الأرض المنخفضة شرف نقل اليهود الى الأرض التى وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحق ويعقوب ومنحهم إياها إرثاً أبدياً .
1622 هنرى فنش المستشار القانونى لملك انجلترا يتشر دراسته حول (( الاستعادة الكبرى للعالم )) والتى يدعو فيها إلى حملة طليبية جديدة لاستعادة (( إمبراطورية الأمة اليهودية )) .
1700 صدور كتاب فيليب جنتيل لانجلير فى فرنسا الذى يدعو فيه إلى مقايضة السلطان العثمانى مدينة روما بمدينة القدس لتسهيل توطين اليهود فى فلسطين .
1798 حملة نابليون على مصر .
1799 نداء نابليون الأول إلى يهود العالم للقتال معه من أجل (( إعادة إنشاء مملكة القدس
القديمة )) .
1799 غزو نابليون لفلسطين وارتداده أمام أسوار عكا .
1807 تكوين (( جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود )) .
1818 الرئيس الأمريكى جون آدامز يدعو إلى استعادة اليهود لفلسطين وإقامة حكومة يهودية
مستقلة .
1838 إنشاء أول قنصلية انجليزية فى القدس وتعيين قس بروتستنتى نائباً للقنصل .
1839 نشر دراسة اللورد أشلى كوبر ( إيرل شافتسبرى ) بأن اليهود الأمل فى تجدد
المسيحية وعودة المسيح الثانية . وأن لله إرادة بعودتهم إلى فلسطين ، وأن الإنسان قادر على تحقيق إرادة الله .
1839 مذكرة سكرتير البحرية الانجليزية إلى وزير الخارجية بالمرستون التى يقترح فيها دعوة أوربا إلى الاقتداء بقورش لإعادة اليهود إلى فلسطين .
1840 رسالة بالمرستون إلى سفير انجلترا بالقسطنطينية لحث السلطان العثمانى على تحويل هجرة يهود أروبا الشرقية إلى فلسطين .
1840 برنامج اللورد شافتسبرى إلى مؤتمر لندن بشأن توطين اليهود فى فلسطين على قاعدة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض .
1844 البرلمان الانجليزى يؤلف لجنة (( إعادة أمة اليهود إلى فلسطين )) .
1845 نشر مشروع إدوارد متفورد (( إقامة دولة يهودية متكاملة فى فلسطين تحت الحماية الانجليزية المؤقتة إلى أن تتمكن هذه الدولة من الوقوف على قدميها .
1860 صدور كتاب إرنست لاراهان المستشار الخاص لنابليون الثالث (( المسألة الشرقية : إعادة بناء الأمة اليهودية )) .
1865 تأسيس صندوق استكشاف فلسطين فى لندن برعاية الملكة فكتوريا ورئيس أساقفة
كانتربرى .
1866 قيام أول بعثة مسيحية أمريكية بقيادة آدم للاستيطان فى فلسطين مع 150 قسيساً
أمريكياً .
1867 إقامة مستوطنة أمريكية فى فلسطين بمشاركة 70 شخصية دينية .
1878 نشر كتاب (( عيسى قادم )) للقس وليم بلاكستون الذى ترجم إلى 40 لغة ، وكان أكثر
الكتب انتشارًا فى القرن التاسع عشر بعد الكتاب المقدس
1880 صدور كتاب (( أرض جلعاد للورنس أوليفنت عضو البرلمان الانجليزى ووزير الخارجية ، والذى يقترح إقامة مستوطنة يهودية على مساحة مليون ونصف المليون فدان إلى الشرق من نهر الأردن ، تكون تحت السيادة العثمانية وتحت الحماية البريطانية ، يهاجر إليها يهود روسيا ورومانيا .
1881 اغتيال القيصر الروسى الإسكندر الثانى وتعرض يهود روسيا للاضطهاد .. والهجرة .
1882 مهمة القس الانجليزى هسلر لدى السلطان عبد الحميد فى القسطنطينية ومحاولة إقناعه بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين .
1882 المؤتمر الأول لرجال الدين المسيحيين من أجل (( إيجاد حل للمسألة اليهودية )) .
1887 بلاكستون يؤسس فى شيكاغو منظمة (( البعثة العبرية نيابة عن إسرئيل )) من أجل حث اليهود على الهجرة إلـى فلسطين ، وهـذه البعثة مستمرة حتى اليوم باسم (( الزمالة الأمريكية المسيحية )) .
1888 زيارة بلاكستون لفلسطين ورفع شعار : أرض بلا شعب لشعب بلا أرض .
1891 مذكرة بلاكستون إلى الرئيس الأمريكى بنيامين هاريسون ووزير خارجيته لين: العمل على تخفيف معاناة الشعب اليهودى بإنشاء وطن قومى لليهود فى فلسطين، وفى المذكرة : لماذا لا تعيد الدول التى أعطت بموجب معاهدة برلين
1878 بلغاريا للبلغاريين ، والصرب للصربيين ، وفلسطين لليهود ؟ .
1894 صدور كتاب الدبلوماسى الانجليزى وليم هشلر : (( إعادة اليهود إلى فلسطين )) تنفيذا
للنبوءات الدينية.
1896 صدور كتاب تيودور هرتزل : (( الدولة اليهودية )) .
1897 انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول فى بال فى سويسرا .
1903 تشمبرلين يعرض على هرتزل الاستيطان اليهودى العريش فى سيناء .
1903 المنظمة الصهيونية ترفض العرض ، فيقدم تشمبرلين عرضاً بتحويل أوغندا إلى وطن يهودى . وهو أول عرض تقدمه دولة لليهود رسمياً لإقامة كيان يهودى خاص .
1904لقاء البابا بولس العاشر مع تيودور هرتزل .
1916 لويد جورج رئيسا للحكومة الانجليزية وآرثر جيمس بلفور وزيراً للخارجية : مفاوضات انجليزية مع الحركة الصهيونية .
1916 اتفاق سايكس – بيكو باقتسام الإمبراطورية العثمانية بين فرنسا وبريطانيا .
1917 صدور وعد بلفور بمنح اليهود وطناً قومياً فى فلسطين .
1918 رسالة الرئيس الأمريكى ودرو ولسون إلى زعيم الحركة الصهيونية الحاخام ستيفن وايز بتأييد وعد بلفور .
1918 ولسون يعلن رسمياً التزامه بتنفيذ وعد بلفور .
1919 مؤتمر السلام فى باريس – فرساى – بعد الحرب العالمية لاأولى .
1920 مؤتمر سان ؤيمو لإدخال تعديلات تجميلية على اتفاق سايكس – بيكو .
1922 عصبة الأمم تقر الانتداب البريطانى على فلسطين .
1922 صدور قرار عن مجلس النواب الأمريكى بضرورة (( منح اليهود الفرصة التى حرموا منها لإعادة إقامة حياة بهودية وثقافة خاصة فى الأرض اليهودية القديمة )) .
1922 إعلان المصادقة الأمريكية على وعد بلفور .
1922 الفاتيكان يوجه مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم ينتقد فيها إقامة وطن لليهود فى
فلسطين .
1930 تأسيس منظمة (( الاتحاد الأمريكى من أجل فلسطين )) للدفاع عن قضية الوطن القومى اليهودى )) .
1932 تأسيس اللجنة الأمريكية – الفلسطينية من أجل إعداد الرأى العام الأمريكى – من غير اليهود – للعمل من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين .
1963 المؤتمر الميسحى الأمريكى يصدر إعلانا بدعوة المجتمعات المتحضرة إلى مساعدة اليهود الفارين من ألمانيا وأوروبا الشرقية (( للعودة إلى فلسطين ملاذهم الطبيعى )) .
1938 فشل مؤتمر إيفيان لبحث مشكلة اللاجئين فى أروبا .
1942 مؤتمر بلطيمور فى نيويورك (( لمجلس الطوارىء فى المنظمة الصهيونية )) . المؤتمر يرفض التقسيم وثنائية الدولة الفلسطينية ، ويطالب بكومنولث يهودى داخـل الحـدود التاريخية لفلسطين .
1943 انعقاد مؤتمر برمودا بضغط من روزفلت وإقرار حدود الهجرة إلى أوروبا وأمريكا ، وفتح أبواب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين .
1943 مذكرة من الفاتيكان إلى الحكومة الأمريكية تجدد معارضة إنشاء دولة يهودية فى
فلسطين .
1944 الحكومة الأمريكية ترفض الكتاب الأبيض الانجليزى حول تحديد هجرة اليهود وتطالب
بإطلاقها .
1944 مبعوث فاتيكانى – ماكماهون – إلى الولايات المتحدة للتحزير من خضوع الغرب إلى المطالب الصهيونية .
1945 هارى ترومان يتولى الرئاسة فى أمريكا – بعد وفاة روزفلت – مجسداً الصهيونية السياسية بكل تفاصيلها.
1947 ترومان يدعو إلى تحقيق أكثرية يهودية فى فلسطين ، ويوجه مذكرة إلى رئيس الحكومة الانجليزية اتلى للسماح لمئة ألف مهاجر يهودى بدخول فلسطين .
1947 أرنست بيفن يعلن قرار حكومته إحالة قضية فلسطين إلى الأمم المتحدة .
1947 الأمم المتحددة تصوت على تقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية ، وتدويل القدس ، بأكثرية 33 ، ومعارض 13 وامتناع 10 .
1948 قيام الكيان الإسرائيلى ، واعتراف أمريكى وسوفياتى فورى به .
1948 قرض أمريكى بقيمة مئة مليون دولار لإسرائيل .
1949 مساعدة أمريكية لإنماء إسرائيل بقيمة 150 مليون دولار .
1949 إسرائيل تحتل جنوب النقب وتصل إلى شاطىء خليج العقبة فى إيلات .
1950 البيان الثلاثى الأمريكى – الانجليزى – الفرنسى حول الشرق الأوسط .
1954 أمريكا تفرض شروطًا على بيع الأسلحة إلى الدول العربية .
1956 إسرائيل تشترك مع بريطانيا وفرنسا فى العدوان الثلاثى على مصر بعد تأميم قناة السويس .
1964 إسرائيل تمنع بالقوة العسكرية مشاريع تحويل روافد نهر الأردن فى لبنان وسوريا .
1967 إسرائيل تشن حرباً على مصر وسوريا والأردن وتحتل سيناء وغزة والضفة الغربية ومرتفعات الجولان .. والقدس .
1969 إسرائيل تغير بطائرات أمريكية على المخيمات الفلسطينية فى لبنان .
1969 محاولة إحراق المسجد الأقصى فى القدس .
1970 حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس بين مصر وإسرائيل .
1972 المؤتمر الأول للمعمدانيين الجنوبيين فى أمريكا يعلن أنه يعتبر (( اللاسامية معادية للمسيحية ، وأن المجتمع الإنجيلى حليف لطموحات إسرائيل )) .
1973 حرب رمضان .
1974 اتفاقيات فك الاشتباك بين القوات الإسرائيلية والمصرية والسورية .
1975 صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية والتمييز العنصرى .
1976 كارتر يعلن إيمانه بعقيدة (( الولادة الثانية )) كمسيحى .
1976 وصول كارتر إلى الرئاسة وإعلانه (( أن تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية )) .
1977 مناحيم بيجن فى رئاسة الحكومة الإسرائيلية : إطلالة التطرف الدينى اليهودى .
1977 زيارة السادات إلى إسرائيل .
1978 مؤتمر كامب دافيد بين مصر وإسرائيل برعاية أمريكية .
1978 الاجتياح الإسرائيلى لجنوب لبنان .
1979 معاهدة السلام المصرى – الإسرائيلى .
1979 كارتر يعلن أمام الكينست الإسرائيلى (( أن أمريكا وإسرائيل تتقاسمان تراث التوراة )) .
1980 إسرائيل تضم القدس الشرقية وتعلنها عاصمة أبدية موحدة .
1980 تأسيس نتظمة السفارة المسيحية الدولية – القدس فى مؤتمر حضره ألف رجل دين مسيحى تقريباً من23 دولة .
1980 ريجان رئيساً للولايات المتحدة : انطلاقة جديدة للتطراف الدينى الأمريكى .
1981 إسرائيل تقصف المفاعل النووى فى العراق .
1982 إسرائيل تجتاح لبنان بما فيه بيروت .
1982 ارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا .
1983 الاتحاد العالمى للوثريين يعلن مـن استوكهولم (( عدم الالتزام بكل ما صدر عن لوثر بشأن اليهود )) .
1983 مؤتمر رؤساء الكنائس اللوثرية الأمريكية يعلن من سانت لويس : (( أسف اللوثريين وعدم علاقتهم بالملاحظات المتطرفة لمارتن لوثر التى أبداها تجاه اليهود )) .
1984 ريجان يعلن عن (( دور الدين فى المجتمع الأمريكى )) برغم قانون فصل الدين عن
الدولة .
1984 ريجان يعبر عن إيمانه بنظرية هرمجدون ودور إسرائيل فى معركة نهاية العالم واقتراب العودة الثانية للمسيح المخلص .
1985 تهجير اليهود الفلاشا من أثيوبيا عبر السودان إلى إسرائيل .
1985 انعقاد المؤتمر الصهيونى المسيحى الأول فى بال بسيويسرا بمشاركة 66 شخصية مسيحية من 27 دولة .
1987 قيام الانتفاضة الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة .
1988 منظمة التحرير الفلسطينية تعترف بحق إسرائيل فى الوجود .
1988 انتخاب مجلس السوفيات الأعلى بالإجماع ميخائيل جورباتشوف رئيسا للاتحاد السوفياتى خلفاً لأندريه جروميكو .
1988 موافقة الاتحاد السوفياتى على افتتاح مركز ثقافى يهودى فى موسكو .
1989 الولايات المتحدة تعلن عن امتلاك إسرائيل أسلحة نووية وكيماوية ذات تفجيرات عالية ، وأنها تتجه لإنتاج صاروخ أريحا2 بعد أن أنتجت أريحا 1 الذى يحمل رؤوسا نووية.
1990 سقوط الشيوعية كنظام فى أوروبا الشرقية .
1990فتح أبواب الهجرة اليهودية أمام يهود الاتحاد السوفياتى إلى إسرائيل .


الفصل الأول
الصهيونية المسيحية الأروبية

سقطت غرناطة بيد الإنسان فى العام 1492 م . على الفور بدأت محاكم التفتيش تفتك بالمسلمين واليهود معاً . تركزت هجرة المسلمين على شمال إفريقيا ( المغرب وتونس والجزائر ) ، ورافق المسلمين فى هذه الهجرة أعداد كبيرة من اليهود ، إلا أن مجموعات كبيرة أخرى منهم هاجرت إلى أوربا .

المهاجرون اليهود من إسبانيا حملوا معهم الثروة العلمية ، والثروة المالية التى جمعوها من حاضرة الأندلس ، الثروتان معاً أسستا قاعدة التغلغل اليهودى فى المجتمعات الأوروبية ، والذى وصل إلى الكنيسة نفسها ، حتى إن الأدبيات الدينية اليهودية احتلت الموقع الممتاز فى معركة الإصلاح الدينى . نشر مارتن لوثر زعيم حركة الإصلاح ورائد المذهب البروتستنتى كتاباً فى العام 1523 باسم ( عيسى ولد يهودياً ) قال فيه
(( إن الروح القدس أنزل كل أسفار اكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم .
إن اليهود هم أبناء الله ، ونحن الضيوف الغرباء . ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التى تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها ، كالمرأة الكنعانية تماماً .

الأدبيات اليهودية التى تسربت إلى صميم العقيدة المسيحية تدور حول أمور ثلاثة .

الأمرالأول : هو أن اليهود هم شعب الله المختار وأنهم يكونون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم .

الأمرالثانى : هو أن ثمة ميثاقاً الهياً يربط اليهود بالأرض المقدسة فى فلسطين وأن هذا الميثاق الذى أعطاه الله لابراهيم عليه السلام هو ميثاق سرمدى حتى قيام الساعة .

الأمرالثالث : هو ربط الايمان الميسيحى- بعودة المسيح - بقيام دولة صهيونية أى بإعادة تجميع اليهود فى فلسطين حتى يظهر المسيح فيهم .

هذه الأمور الثلاثة ألفت فى الماضى ، وهى تؤلف اليوم قاعدة الصهيونية المسيحية التى تربط الدين بالقومية ، والتى تسخر الاعتقاد الدينى المسيحى لتحقيق مكاسب يهودية .

ثم التهويد من خلال الحركة البروتستنتية أولاً ، وبعد ذلك من خلال الحركة التطهيرية Puritanians ، كانت الكنيسة الكاثوليكية تتمسك باعتقادها بأن ما يسمى بالأمة اليهودية قد انتهى ، وأن الله طرد اليهود من فلسطين إلى بابل عقاباً على صلب المسيح . وكانت الكنيسة تعتقد أيضاً أن ان النبؤات التى تتحدث عن العودة تشير الى العودة من بابل ، وأن هذه الدعوة قد تمت بالفعل على يد الامبراطور الفارسى " قورش " .

الفليسوف الدينى لهذا الاعتقاد هو القديس أوغسطين الذى كان يعتبر القدس مدينة العهد الجديد ، وأن فلسطين هى إرث المسيح للمسيحيين .

الإصلاح الدينى تنكر لهذا الاعتقاد ، وطرح الإيمان بأن اليهود هم الأمة المفضلة ، وأن عودتهم إلى أرض فلسطين تحقق وعد الله ، وأن هذه العودة ضرورية لعودة المسيح وقيام مملكته مدة ألف عام ( الألفية ) . تكريساً لهذا التحول ، أصبح العهد القديم المرجع الأعلى لفهم العقيدة المسيحية وبلورتها ، وفتح باب تفسير نصوصه أمام الجميع لاستخراج المفاهيم الدينية دون قيود . كذلك اعتبرت اللغة العبرية – باعتبارها اللغة التى أوحى بها الله ، واللسان المقدس Leshon Ha Hodesl الذى خاطب به شعبه المختار – هى اللغة المعتمدة للدراسة الدينية .

من خلال ذلك تغلغل الفكر اليهودى إلى قلب الحركة الدينية حتى إن الفليسوف الهولندى (( هو جوغر ويتوس )) ، نشر كتاباً عنوانه (( حقيقة الدين المسيحى )) سفه فيه التحقير المسيحى لليهودية ، وأبرز الجوامع المشتركة بين اليهودية والمسيحية الجديدة ( البروتستنتية ) .

بعد انفصال الملك هنرى الثامن عن روما ، اقتحمت حركة الإصلاح الدينى بريطانيا وتمركزت فيها . وهناك ظهرت أول دعوة لانبعاث اليهود كأمة الله المفضلة فى فلسطين ، على يد عالم اللاهوت اليهودى البريطانى توماس برايتمان ( 1562 – 1607 ) . فقد نشر كتاب Apocalypsis Apocalypscos ، وهو الكتاب الذى قال فيه : إن الله يريد عودة اليهود إلى فلسطين ليعبدوه من هناك حيث يفضل الله أن تتم عبادته على أى مكان آخر ..

تحلق حول هذه الدعوة عدد من الشخصيات البريطانية الأدبية والفكرية والسياسية ، أحد هؤلاء ، هنرى فنش الذى قال فى كتاب له صدر فى عام 1621 : (( ليس اليهود قلة مبعثرة ، بل إنهم أمة . ستعود أمة اليهود إلى وطنها ، وستعمر كل زوايا الأرض .. منذ القرن السادس عشر ، تجاوزت اليهودية حدود العقيدة الدينية ، وأصبحت أمة ورمزاً للقومية ، حتى الكتاب المقدس – العهد القديم – تحول منذ ذلك الوقت المبكر من كتاب دين إلى كتاب سياسى يقوم على قاعدة العهد الإلهى بالأرض المقدسة للشعب اليهودى المختار .

هذه المعتقدات الدينية المسيحية أصبحت جزءاً من عقيدة الكنيسة البروتستنتية الجديدة ومن جوهر طقوسها ، ومن خلالها تحولت إلى قاعدة عامة للتربية الدينية ، خرجت أتباعاً لها ومؤمنين بها من رجال السياسة والأدب والفكر ، وشهدت المرحلة البيوريتانية فى القرن السابع عشر العصر الذهبى لهذهخ المعتقدات بعد تراجعها الكبير فى العهد الإليزابيثى Elixabethian ، فى هذه المرحلة ظهرت الطبعة الأولى لنسخة الملك جيمس من الكتاب المقدس ، وبموجبها أصبح العهد القديم المصدر الأساسى إن لم يكن المصدر الوحيد لاجتهاد ، ولاستنباط الأحكام والفلسفة الدينيتين اللتين فتحتا أبوابهما بعد أن أبيح حق التأويل الشخصى على حساب إسقاط احتكار هذا الحق بالكنيسة عموماً وبالبابوية خصوصاً .

لعل أبرز مظاهر التطرف فى هذا العهد هى :
1. استعمال العبرية لغة الصلاة فى الكنائس وفى أثناء تلاوة الكتاب المقدس .
2. تعميد الأطفال فى الكنائس بأسماء عبرية بعد أن كان يتم تعميدهم بأسماء القديسين المسيحيين .
3. نقل يوم الاحتفال الدينى ببعث المسيح إلى يوم السبت اليهودى .

أما على الصعيد السياسى فإن مجموعة لفلرز Levellers وهى مجموعة بيوريتارنية جمورية ، طالبت الحكومة بأن تعلن التوراة دستوراً لبريطانيا .

Elenezer Cartaright مذكرة إلى الحكومة البريطانية طالبا فيها (( بأن يكون للسعب الانجليزى ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل على متن سفنهم إلى الأرض التى وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحق ويعقوب ومنحهم إياها إرثاً أبدياً )) .

تكمن أهمية هذه المذكرة فى أمرين :
الأمر الأول : أنها تعبر عن مدى التحول فى النظرة إلى فلسطين ( والقدس ) من كونها أرض المسيح المقدسة ( التى قامت الحروب الصليبية بحجتها ) إلى كونها وطناً لليهود .

الأمر الثانى : أنها كانت أول تعبير عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح تحتم أن تسبقها عودة اليهود إلى فلسطين ، وأن العودتين لن تتحققا إلا بتدخل إلهى ، إلى الإيمان بأن هاتنين العودتين ( عودة اليهود وعودة المسيح ) يمكن أن تتحققا بعمل البشر .

كان أوليفر كرومويل O. Kromwell أول أهم سياسى بريطانى يتبنى مضمون هذه المذكرة ، ذلك أنه كان على مدى عشر سنوات ( 1649 – 1658 ) رئيساً للمحفل البيوريتانى . وهو الذى دعا إلى عقد مؤتمر 1655 فى الهوايت هول للتشريع لعودة اليهود إلى برطانيا ( أى إلغاء قانون النفى الذى اتخذه الملك إدوارد )
حضر المؤتمر إلى جانب كرومويل العالم اليهودى مناسح بن إسرائيل الذى ربط الصهيونية المسيحية بالمصالح الاستراتيجية لبريطانيا ، ومن خلال عملية الربط تلك تحمس كرومويل لمشروع التوطين اليهودى فى فلسطين منذ ذلك الوقت المبكر .

اعتمد هذا الربط فيما بعد ، حاييم وايزمان مع لويد جورج ( بعد عشرة أجيال ) . إن توظيف الدافع الدينى لتحقيق مكاسب سياسية ذات بعد استراتيجى أسس القاعدة الثابتة للصهيونية المسيحية أولاً فى بريطانيا ( وأوروبا ) وبعد ذلك فى الولايات المتحدة .

فى تلك الفترة المبكرة راجت أفكار دينية تقول إن المعاناة التى واجهتها بريطانيا فى الحرب الأهلية التى سبقت ظهور الحركة البيوريتانية مردها إلى غضب الله بسبب سوء معاملة اليهود .

ألف ذلك الركيزة الدينية – السياسة – الفكرية الأولى للصهيونية المسيحية فى بريطانيا ، أما فى أوروبا فقد قامت الركيزة فى هولندا التى تكونت بعد الحرب الدينية بين الكاثوليكية فى العام 1906 تكونت جمهورية هولندا على أساس المبادىء البروتستنتية الكالفينية أدى إلى انتشار تيار المسيحية الصهيونية فى أوروبا ، حتى إنه صدر فى فرنسا كتاب للعالم الفرنسى فيليب جنتل دى لانجلير ( 1656 – 1717 ) دعا فيه إلى مقايضة السلطان العثمانى مدينة القدس بمدينة روما تسهيلاً لتوطين اليهود فى فلسطين ، وصدرت كتب مماثلة فى ألمانيا والدول الإسكندنافية وخاصة فى السويد والدانمارك .

لم تقف أدبيات الصهيونية المسيحية عند حدود الكنيسة ، فمن أجل تأصيل هذه الأدبيات وتعميمها فى جميع شرائع المجتمع ، كان لابد من بناء هيكل أدبى فوق قواعدها الفكرية ، عكس ذلك ميلتون Milton فى قصيدته الفردوس المفقود Paradise Lost حيث يقول :
(( إن الله سيشق لليهود طريق البحر ليعودوا فرحين مسرورين إلى وطنهم ، كما شق لهم البحر الأحمر ونهر الأردن عندما عاد آباؤهم إلى أرض الميعاد ، إننى أتركهم لعناية الله ، وللوقت الذى يختاره من أجل عودتهم )) .

وبالاضافة إلى ميلتون ، ترددت أفكار مشابهة فى قصائد وأعمال أدبية للورد بايرون Lord Bayron وكولريدج Colridge وألكسندر بوب Alexander Pope ووليم بليك Wiliam Blacke ، كما ترددت فى كتابات جان راسين Jean Racine وجاك بوسيه Jacque Boussuet وتعتبر رواية جورج آليوت George Eliot دانيال ديروندا Daniel Deronda من الأدبيات التوراتية التى تنبأت بقيام إسرائيل جمهورية تسود فيها العدالة والحرية والرخاء .

هذه التوجيهات فلسفها فلاسفة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا الكبار فى القرن السابع عشر حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من القناعات التى تفرض نفسها فى عملية اتخاذ القرار السياسى فى الدوائر الحكومية فى كل الدول الأوروبية .
من هذه التربية الفكرية نبتت (( جمعية لندن لتعزيز المسيحية بين اليهود )) فى العام 1807 ، وكان اللورد أنطونى إشلى كوبر ( إيرل شافتسبرى 1885-1801 Lord Shaftesburey أحد أبرز أركانها .

ففى العام 1839 نشر مقالاً يقع فى ثلاثين صفحة ، أكد فيه أن اليهود غرباء حتى يعودوا إلى فلسطين ، وأن الإنسان قادر على تحقيق إرادة الله بتسهيل هذه العودة ، وأن اليهود هم الأمل فى تجدد المسيحية وعودة المسيح ، وفى هذا المقال أيضاً يرفع أنطونى كوبر ، ولأول مرة شعار (( وطن بلا شعب لشعب بلا زطن )) .

لم يكن كوبر ( اللورد شافتسبرى ) وحيداً فى دعواه فى هذه المرحلة من القرن التاسع عشر ، كان يلتقى معه عدد كبير من الساسة واللورادات ، بينهم دوق كنت Duke of Kent ولعل أبرزهم كان جلادستون Gladestone ، ذلك أنه فى هذه الفترة توافرت ظروف التكامل بين العمل البشرى من أجل تحقيق إرادة الله – بعودة اليهود إلى فلسطين والمصالح الاستراتيجية البريطانية فى حماية الطريق إلى درة التاج البريطانى : الهند . وهو نوع من التزاوج بين الصهيونية – المسيحية ومصالح التاج البريطانى .
كان وزير خارجية بريطانيا اللورد بالمرستون Palmerston ( 1784 – 1865 ) أبرز سياسى بريطانى يتبنى مشروع اللورد شافتسبرى برغم أنه لم يكن من أتباع المدرسة الصهيونية المسيحية ، تولى بالمرستون تخطيط السياسة الخارجية البريطانية على أساس وراثة الإمبراطورية العثمانية ( الرجل المريض ) فى طور التنافس على هذه التركة مع فرنسا وروسيا ، فالجنرال نابليون كان أول رجل دولة أوروبى يدعو اليهود إلى إقامة وطن لهم فى فلسطين خلال الحملة التى قام بها على مصر والشرق فى العام 1798 . والبيان الذى وجهه إلى اليهود ودعاهم فيه (( ورثة فلسطين الشرعيين )) جاء قبل 118 سنة من صدور وعد بلفور بإنشاء وطن قومى يهودى فى فلسطين فى العام 1917 . كذلك فإن نابليون كان أول رجل دولة أوروبى يبنى موقفاً سياسا من نبوءات دينية يهودية وردت فى سفر أشعيا Isaiah ويوئيل Joel .

وبختصار كان البيان أول ترجمة سياسية للصهيونية المسيحية وهى الترجمة التى انتزعت أول لإقرار أوروبى بما يدعيه اليهود حقا لهم فى فلسطين .

وبرغم أن المشروع النابليونى لم يتحقق ، فإن الدعوة روجت على نطاق واسع لفكرة البعث اليهودية وخاصة فى عهد الملك لويس الرابع عشر على يد رئيس الحكومة كولبير Jean Colbert ، ثم فى عهد نابليون الثالث وعلى يد مستشاره الخاص لاهاران Ernest Laharanne .

كانت فرنسا تدعى حماية الأقليات المسيحية الكاثوليكية فى الشرق ، وكانت روسيا تدعى حماية الأقليات المسيحية الأرثوذكسية ، ولم تكن الدعوة المسيحية الإنجيلية قد وصلت إلى الشرق بعد ، فكان طبيعياً أن يبحث اللورد بالمرستون عن أقلية ما تدعى بريطانيا حمايتها ، وقد وجد فى اليهود ضالته المنشودة ، وهكذا تكاملت المصلحة الاستراتيجية البريطانية مع الصهيونية المسيحية ، ووظفت النبوءات الدينية لتكون مدخلاً إلى تحقيق هذا التكامل السياسى – الدينى .

وهكذا أنشأ اللورد بالمرستون فى العام 1838 أول قنصلية لبريطانيا فى القدس ، استجابة لإلحاح اللورد شافتسبرى Shaftesbury Lord ٍ .

اختار بالمرستون صهيونياً مسيحياً وصديقاً للورد شافتسبرى هو وليم يونج Wiliam Young ليكون أول نائب لقنصل بريطانيا فى القدس .

واستجابة لطلب بالمرستون ، بعث يونج تقريراً عن حجم وأوضاع اليهود ليقرر – بالمرستون – فى ضوء ذلك كيف يجعل من اليهود أقلية تحيها بريطانيا ، جاء فى تقرير يونج أن عدد اليهود يبلغ 9690 شخصاً ، وأن حالتهم متردية وأنهم يعيشون على المساعدات التى تصل إليهم من الخارج .

لم يثبط مضمون التقرير عزيمة بالمرستون ، بل على عكس ، ذلك أنه عندما تلقى فى العام نفسه مذكرة وزير البحرية البريطانية هنرى إنس Henry Innes التى يدعو فيها دول أوروبا الشمالية وأمريكا للاقتداء بقورش ، وتنفيذ إرادة الله بعودة اليهود إلى فلسطين ، حول المذكرة إلى الملكة فكتوريا مستغلا تربيتها الدينية على أساس العقيدة الصهيونية المسيحية .

وبضوء أخضر من بالمرستون كذلك ، روجت الصحافة البريطانية لهذه المذكرة ونشرتها وعلقت عليها على مدى عام كامل .

وبذلك أوجد بالمرستون أرضية ملكية – برلمانية – حزبية – شعبية لمشروع التوطين . غير أن يهود بريطانيا وأوروبا لم يتجاوبوا معه ، ذلك أن الصهيونية اليهودية لم تكن قد ولدت بعد ، وكانت الأولوية لدى يهود بريطانيا وأوروبا الشمالية هى الحصول على الحرية الدينية والسياسية الكاملة وليس الهجرة إلى فلسطين ، فلجأ بالمرستون إلى يهود أروبا الشرقية مستغلا معاناة اليهود فى روسيا ورومانيا الذين كانوا يتعرضون للاضطهاد عقب اغتيال القصير الإسكندر الثانى فى العام 1881 ونتيجة لتجذر المسيحية الأرثوذكسية وانغلاقها عن عملية الإصلاح الدينى وعن المسيحية البروتستنتية الجديدة التى انثقت عن هذه العملية .

ولتسهيل هذه الهجرة كان بالمرستون يحث السفير البريطانى فى القسطنطينية بونسونبى Viscount John Ponsonby على إقناع السلطان العثمانى بقبول هذه الهجرة (( لما تحققه من فوائد اقتصادية وسياسية للسلطنة )) .

أفرزت سلسلة الموجات الأدبية والفلسفية واللاهوتية أنصاراً سياسيين لصهيونية المسيحية فى وزارة الخارجية البريطانية ، أمثال إدوارد متفورد Edward Mitford الذى أعد فى العام 1845 مشروعاً متكاملاً لإقامة دولة يهودية فى فلسطين على أساس أن تكون هذه الدولة فى المرحلة الأولى تحت الوصاية البريطانية . وأوضح المشروع المزايا الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية التى تحققها بريطانيا من جراء ذلك .

وفى عام 1841 كتب أحد أنصار الصهونية المسيحية وهو تشارلز . ه . تشرشل Charles Henry Cherchill رسالة إلى رئيس المجلس اليهودى فى لندن يقول له فيها : إن استعادة اليهود لوجودهم كشعب فى فلسطين أمر ميسور إذا توافر عاملان اثنان : أولهما أن يتولى اليهود أنفسهم وبالإجماع طرح موضوع العودة على الصعيد العالمى ، وثانيهما أن تبادر القوى الأروبية إلى دعمهم تحقيقاً لهذا الهدف .

هذه الدعوة كانت أول تحريض من الصهيونية المسيحية لقيام الصهيونية اليهودية ، وكانت كذلك أول تحريض للعمل على تجميع القوى الأوروبية وراء مشروع الاسيتطان اليهودى فى فلسطين .

بدأ التمهيد للاسيتطان من خلال بعثات الاستكشاف إلى فلسطين التى كان يمولها منذ العام 1865 (( صندوق اكتشاف فلسطين )) .
ركزت التقارير التى وضعتها البعثات الأولى على أمرين :
الأمر الأول : هو أن حالة التردى والتقهقر فى فلسطين سببها المسلمون العرب .
الأمر الثانى : هو أن عودة اليهود إلى فلسطين ستعيد إليها الازدهار والعمران .

ولعل أكثر خطط البعثات الاستكشافية تفصيلاً تلك التى وضعها لورنس أوليفنت 1888 – 1829 Lawrence Oliphant فى كتابه : (( أرض جلعاد )) Land of Gelead والتى اقترح فيها إقامة مستوطنة يهودية على مساحة مليون ونصف المليون فدان شرقى نهر الأردن لتوطين يهود روسيا ورومانيا . أما بالنسبة لسكان هذه المنطقة من العرب فاقترح تجميعهم فى منطقة خاصة بهم كما جرى للهنود الحمر فى أمريكا .

كان لابد ، بعد وضع هذه الدراسات التفصيلية ، من إقامة جسر بين الصهيونية المسيحية واليهود ، لحثهم على تمويل مشاريع الاستيطان ، والمساهمة فيها ، والتجاوب معها . من أجل ذلك عهد رئيس الوزراء البريطانى دزرائيلى ( اللورد بيكونسفيلد ) ووزير خارجيته اللورد سالزبرى إلى أوليفنت أن يتفاوض مع السلطان العثمانى من أجل الحصول على موافقته على توطين اليهود فى فلسطين .

فى الوقت الذى كان أوليفنت يحاول فيه الحصول على تأشيرة دخول لليهود من السلطان ، كان قسيس أنكليكانى يشغل منصب ملحق فى السفارة البريطانية فى فيينا هو وليم . هـ . هشلر William Hechler (1931 – 1845) ينظم عملية تهجير اليهود الروس إلى فلسطين . ففى العام 1882 عقد فى فيينا مؤتمراً مسيحيا من أجل هذا الموضوع . وفى العام 1894 نشر كتاباً عنوانه (( عودة اليهود إلى فلسطين )) وطرح هذه العودة على قاعدة تطبيق النبوءات الدينية الواردة فى العهد القديم . هذا الكتاب صدر قبل عامين من صدور كتاب تيودور هرتزل (( الدولة اليهودية )) وهو الكتاب الذى ترجم لأول مرة الفكر الصهيونى اليهودى الذى تبلور بعد ذلك فى مؤتمر بال فى العام 1897 .

وظف هشلر علاقاته لحساب هرتزل ، ورتب له لقاء مع دوق بادن Duke of Baden عم القصير الألمانى ولهلم الثانى ، وهو اللقاء الذى فتح له أبواب القصير مرتين فى القسطنطينية وفى القدس فى العام 1898 . كان هم هرتزل أن يجعل من قصير ألمانيا قورش الثانى ، وأن يقنعه بالضغط على السلطان العثمانى لمنح اليهود حق الاستيطان فى فلسطين ، ولكن هرتزل فشل فى ذلك .


تزامن الإعلان عن البرنامج السياسى للمؤتمر الصهيونى اليهودى الأول مع تدفق يهود أوروبا الشرقية إلى بريطانيا والولايات المتحدة . لم يكن جوزف تشمبرلين ( 1836 – 1914 ) مرتاحاً لهذه الهجرة إلى بريطانيا خوفاً من الانعكاسات السلبية على الاقتصاد البريطانى ومن مزاحمة الأيدى الرخيصة للمهاجرين اليهود للطبقة العاملة فى بريطانيا .

وبرغم أن تشمبرلين لم يكن من غلاة الصهيونية المسيحية ، فإنه وجد فى تبنى المشروع الصهيونى وسيلة لتمويل المهاجرين اليهود من بريطانيا إلى العريش ... أو حتى إلى أوغندا فى شرق إفريقيا ، فالمهم هو حل مشكلة المهاجرين اليهود من روسيا ورومانيا ومن بقية دول شرق أوروبا ، دون التسبب فى إثارة مشكلة توطين لليهود فى بريطانيا .

فى هذا الاطار تم لقاء تشمبرلين مع هرتزل فى لندن ، وهو اللقاء الذى يعيد إلى الأذهان لقاء كرومويل مع مناسح بن إسرائيل ، كتعبير عن تلاقى مصالح الصهيونية المسيحية مع الصهيونية اليهودية فى تطلعاتهما نحو أهداف مشتركة . كذلك فإن هذا اللقاء أرسى قاعدة اللقاء الذى سيتم فى العام 1914 بين آرثر بلفور ( الذى خلف عمه اللورد سالزبرى فى رئاسة الحكومة البريطانية فى العام 1902 ) وحاييم وايزمان .

كان بلفور أول مسوؤل بريطانى يمنح اليهود أرضاً ( أوغندا ) لإقامة دولتهم عليها . غير أن المؤتمر الصهيونى الرابع الذى عقد فى العام 1903 ، رفض هذا العرض تمسكاً منه بأرض فلسطين .

استجاب بلفور للطلب الصهيونى بسرعة وبسهولة . حتى إنه أعد مذكرة حول موضوع الاستيطان اليهودى فى فلسطين قال فيها :

(( ليس فى نيتنا حتى مراعاة مشاعر سكان فلسطين الحاليين ، مع أن اللجنة الأمريكية تحاول استقصاءها . إن القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية . وسواء أكانت الصهيونية على حق أم على باطل ، جيدة أم سيئة ، فإنها متأصلة الجذور فى التقاليد القديمة العهد والحاجات الحالية ، وآمال المستقبل ، وهى ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمئة ألف عربى الذين يسكنون الآن هذه القديمة )) .

أما بالنسبة للاستيطان اليهودى فى فلسطين ، فقد أوصى فى الجزء الأخير من هذه المذكرة : (( إذا كان للصهيونية أن تؤثر على المشكلة اليهودية فى العالم فينبغى أن تكون فلسطين متاحة لأكبر عدد من المهاجرين اليهود . ولذا فإن من المرغوب فيه أن تكون لها السيادة على القوة المائية التى تخصها بشكل طبيعى سواء أكان ذلك عن طريق توسيع حدودها شمالاً أم عن طريق عقد معاهدة مع سورية الواقعة تحت الانتداب والتى لا تعتبر المياه المتدفقة من (( الهامون )) جنوباتً ذات قيمة بالنسبة لها . ولليبب ذاته يجب أن تمتد فلسطين لتشمل الأراضى الواقعة شرقى نهر الأردن )) .

اتخذ القرار البريطانى بإصدار بيان عام من السياسة البريطانية فى فلسطين فى العام 1916 أثناء رئاسة لويد جورج للحكومة البريطانية . من أجل ذلك جرت مفاوضات رسمية بين الحكومة – وكان وزير الخارجية آرثر بلفور – وبين المنظمة الصهيونية – اليهودية .

لم تكن بريطانيا تستطيع احتلال فلسطين عسكرياً لتناقض الاحتلال مع الروح الجديد الذى بثته مبادىء الرئيس الأمريكى ودرو ولسون ، ولم يكن بإمكالن يهود فلسطين فى ذلك الوقت إعلانها دولة لهم . المصالح البريطانية والصهيونية المشتركة اقتضت فرض الانتداب البريطانى عليها تمهيداً للوقت المناسب الذى يتمكن فيه اليهود من إعلان الدولة . فالانتداب يحقق لبريطانيا هدفاً استراتيجياً يقع فى إطار ممارسة (( شرف )) تحقيق وعد الله إلى اليهود بإعادة أرض فلسطين إليهم .

وهكذا صدر فى الثانى من نوفمبر – تشرين الثانى 1917 وعد بلفور الشهير . حتى إذا أقر الانتداب البريطانى على فلسطين فى مؤتمر سان ريمو فى العام 1920 يكون الوعد جزءاً منه وحتى إذا منحت عصبة الأمم بريطانيا فى العام 1922 حق الانتداب رسمياً تكون العصبة قد أقرت ضمناً أيضاً مضمون الوعد بإقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين .


وتمهيداً لذلك كله ، حرصت اتفاقية ( مارك ) سايكس – ( جورج ) بيكو فى العام 1916 ، والتى قسمت الإمبراطورية العثمانية بين بريطانيا وفرنسا وروسيا أن تضع فلسطين وحدها دون سائر أجزاء الوطن العربى من الإمبراطورية ، تحت إدارة دولية ، وفى ذلك إشارة أولى وواضحة إلى فصل فلسطين عن الوطن العربى .

لقد كان مارك سايكس تلميذاً للدكتور موسى غاستر وهو لاهوتى يهودى رومانى تبوأ مركز كبير حاخاميى السفارديم فى لندن . ومن غاستر تشرب سايكس مبادىء وروح الصهيونية المسيحية قبل أن يعين وكيلاً للوزارة فى مجلس الحرب .

قبل اتفاقية كامب ديفيد 1979 بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة ، التى نصت على منح الفلسطينيين حكماً ذاتياً فى الضفة الغربية وغزة ، وقبل التفسير الإسرائيلى لمعنى الحكم الذاتى بأنه حكم الغرباء على أرض إسرائيلية ، أنكر وعد بلفور وجود الشعب الفلسطينى ، ولم يذكر كلمة العرب ، بل أشار إلى ما سماه جاليات غير يهودية موجودة فى فلسطين ، واعترف باليهود كأمة ، وباليهودية كقومية .

وبموجب ذلك أصبحت ( منذ صدور البيان وتكريسه دولياً ) كل حقوق المواطنة لليهود ( غير الموجودين ) واستجهل المواطنون الموجودن اسماً وحقوقاً . ذلك أنه بالنسبة إلى سكان فلسطين من العرب المسلمين والمسيحين ، نص وعد بلفور على ضمان حقوقهم المدينة والدينية .. وهو الضمان الذى يمنح للغرباء الذين يعيشون على أرض ليست لهم .. وهو الضمان نفسه الذى نصت عليه اتفاقية كامب ديفيد بعد 62 عاماً !! ..

فور صدور وعد بلفور ، تحرك اليهود لتنفيذه . فى آذار – مارس من العام 1918 ، وصل إلى فلسطين وفد يهودى يضم الدكتور وايزمان Weizman وجيمس دى روتشلد J . de Rotshild وإسرائيل سيف I. Sieff للعمل كلجنة ارتباط بين اليهود والسلطة العسكرية البريطانية . فى هذه الفترة كان عدد اليهود يبلغ 55 ألف شخص فقط أى نحو 8 بالمئة من السكان البالغ عددهم 700 ألف شخص ، 92 بالمئة منهم من المسلمين والباقى من المسيحيين .

بعد ذلك عينت بريطانيا يهودياً لشغل منصب المندوب السامى فى فلسطين . كان هيربرت صموئيل Herbert Samuel أول يهودى يحكم فلسطين منذ ألفى عام . وكان هدفه أن يستوطن فلسطين أربعة أو خمسة ملايين يهودى . ولتنفيذ ذلك كانت الأراضى العربية تصادر من أصحابها وتحول إلى مستوطنات لليهود . وفى إحدى الحالات أجلى 8 آلاف عربى عن أرض مساحتها 50 ألف هكتار ، ودفع لكل منهم مبلغ ثلاثة جنيهات وعشر شلنات كتعويض .

وبدعم من صموئيل تحولت الوكالة اليهودية التى كانت مهمتها بموجب نظام الانتداب إرشاد المستوطنين اليهود اجتماعياً واقتصادياً ، إلى دولة داخل الدول .. نتيجة لذلك كله تضاعف عدد اليهود فى فلسطين ووصل إلى 17 بالمئة من السكان ( 170 ألفاً ) . وعندما قاوم العرب الهجرة والاسيتطان ومصادرة الأراضى وتواطؤ المندوب السامى ، كون اليهود المنظمات الإرهابية شترن Stern أرغون Irgun Zvie Leumi وهى المنظمات التى تحولت إلى النواة الأولى للجيش الإسرائيلى فى العام 1948 ، وما بعده ..

الفصل الثانى
الصهيونية المسيحية الأمريكية

فى العام 1492 اكتشفت أمريكا . وهو العام نفسه الذى سقطت فيه الأندلس . إذا كانت محاكم التفتيش الكاثوليكية قد دفعت باليهود إلى أوروبا هرباً بدينهم ، فإن الصراع الدينى فى أوروبا حمل فى مطلع القرن السابع عشر المتهودين الجدد إلى العالم الجديد . وكما كانت لهجرة يهود الاندلس آثار مباشرة على حركة الإصلاح الدينى وعلى حكومات الدول التى هاجروا إليها ( وخاصة فى فرنسا وبريطانيا والأراضى المنخفضة – هولندا وبلجيكا ) كذلك كان لهجرة أتباع الدين الجديد من البروتستانت والمتطهرين آثار مباشرة على بلورة الشخصية الأمريكية بالصورة التى تقوم عليها حتى اليوم .

المهاجرون الأوائل أعطوا أبنائهم أسماء عبرانية ( إبراهام سارة .. العازر .. إلخ ) . وأطلقوا على مستوطناتهم أسماء عبرانية ( حبرون .. سالم وكنعان .. الخ ) . وفرضوا تعليم اللغة العبرية فى مدارسهم وجامعتهم . حتى إن أول دكتوراه منحتها جامعة هارفارد فى العام 1642 كانت بعنوان (( العبرية هى اللغة الأم )) . وأول كتاب صدر فى أمريكا كان (( سفر المزامير )) Psalm وأول مجلة كانت مجلة (( اليهودى )) The Jew .

فى المرحلة الأولى اعتبر هؤلاء الإنجيليون العالم الجديد بمثابة كنعان الجديدة (New Canaan ) . واعتبروا ملك بريطانيا جيمس الأول الذى اضطهدهم بمثابة فرعون الجديد ، واعتبروا انجلترا التى هربوا منها بمثابة مصر ، واعتبروا الهنود الحمر فى أمريكا بمثابة الأسباط العشرة المفقودة من بنى إسرائيل . حتى إنه عندما تاهت إحدى الجماعات البروتستنتية من طائفة المرمون فى الصحراء الأمريكية قبل أن تصل إلى ولاية يوتاه وتستقر فيها ، شبهت عملية التيه بتلك التى تعرض لها بنو إسرائيل فى صحراء سيناء ، ولذلك اطلقت هذه الجماعات على نهر كولورادو الاسم التوراتى القديم نهر باشان .

إلا أن اليهود الأصليين سرعان ما صححوا هذه الاعتقادات فسبق قيام الكنائس اليهودية الكنائس الإنجيلية ذاتها ، وخلال الحرب الأهلية الأمريكية ، كان القساوسة يشبهون خلال مواعظهم الكنيسة الشعب الأمريكى بالشعب اليهودى الذى يكافح من أجل استرجاع أرض الميعاد .

وقد بلغ من تأثير الصهيونية المسيحية على الرواد الاوائل فى أمريكا حداً اقترح معه الرئيس جيفرسون اتخاذ رمز لأمريكا يمثل أبناء إسرائيل تظللهم غيمة فى النهار ، وعمود من نور فى الليل بدلا من شعار النسر ، وذلك توافقا مع ما يتضمنه سفر الخروج .

تبنى مؤسس الكنيسة المورمونية ، القس جوزف سميث نظرية البعث اليهودى فى فلسطين . وارتفعت منذ العام 1814 الدعوات الأمريكية الإنجيلية لتوطين اليهود فى فلسطين . أحد رواد الحركة الصهيونية المسيحية الأمريكية القس وردر جريسون Warder Gresson ، هاجر من أمريكا إلى فلسطين واعتنق اليهودية ، وعمل مستشاراً للحكومة الأمريكية فى القدس ، ثم قنصلاً عاماً لها فى العام 1852 . وكان نشاطه يتمركز حول موضوع واحد وهو إقامة وطن يهودى فى فلسطين . وتحقيقا لذلك ، أنشأ مستوطنة زراعية يهودية ، ووطن إنجيايين أمريكيين ويهوداً فيها ، بدعم من مؤسسة يهودية – مسيحية – انجليزية .
توالت بعد ذلك حركات الاستيطان بتمويل من رجال أعمال أميريكيين . فقامت مستوطنة (( جبل الأمل )) إلى الغرب من يافا فى العام 1850 . وكان إقبال الصهاينة المسيحيين على الاستيطان أشد من إقبال الصهاينة اليهود ، وذلك (( انتظاراً )) للعودة الثانية للمسيح ))
أبرز أعلام المستوطنين الأوائل هى كلوريندا ماينوا cLORINDA mINOR والرحالة وليم لنش wILLIAM LINSH ورون جريسون RONE GRISSON، إلا أن اليهود لم يتجاوبوا مع هذه الدعوات المبكرة للهجرة . كانت الأولوية عندهم هى استيعاب المهاجرين اليهود الذين يفدون من روسيا ورومانيا .


وكما كان الأمر فى أوروبا ، فإن المشكلة لم تكن فى إقرار مبدإ عودة اليهود إلى فلسطين ، بل فى إقناع اليهود بتسريع هذه العودة من أجل تسريع العودة الثانية للمسيح .

يعتبر جون سكوفيلد cYRUS INGERSON SCOFIELD الأب اللهوتى للصهيونية المسيحية فى الولايات المتحدة . وهو يستمد تعاليمه من قس إيرلندى يدعى جون نلسون داربى JOHN NELSON DARBY من كنيسة انجلترا . تقوم هذه التعاليم على الاعتقاد بأن لله برنامجين وشعبين يتعامل معهما . وأن إسرائيل هى مملكة الله على الأرض . وأن الكنيسة المسيحية هى مملكة الله فى السماء .

فى العام 1909 نشر سكوفيلد (( إنجيله )) الذى يفلسف فيه هذه المعتقدات وتولت طبعه OXFORD UNIVERSITY PRESS OF NEW YORK .

كان القس وليم بلاكستون WILLIAM E . BLACKSTON 1841 -1935أبرز دعاة العودة اليهودية إلى فلسطين ، وكان أول من مارس الضغط السياسى فى الولايات المتحدة من أجل تسريع وتسهيل هذه الدعوة . وكان أول من نشر من خلاله كتابه (( المسيح آت )) JESUS IS COMING الذى صدر فى العام 1878 ، وذلك من خلال دعوته إلى الربط بين عودة اليهود إلى فلسطين وعودة المسيح إلى الأرض .

فى العام نفسه الذى صدر فيه هذا الكتاب أسس بلاكستون منظمة تدعى (( البعثة العبرية من أجل إسرائيل )) HEBREW MISSION ON BEHALF OF ISRAEL ولا تزال هذه المنظمة مستمرة فى مهمتها حتى اليوم باسم جديد هو (( الزمالة اليسوعية الأمريكية )) aMERICAN MESSIANIC FELLOWSHIP وتعتبر هذه المنظمة حتى اليوم قلب جهاز الضغط ( LOBBY) الصهيونى فى الولايات المتحدة .

ولعل أول عمل من أعمال الضغط الذى مارسه بلاكستون عبر منظمته هو جمع تواقيع شخصيات أمريكية من جميع أنحاء الولايات المتحدة تأييداً لإقامة وطن يهودى فى فلسطين . حملت العريضة تواقيع 413 شخصية أمريكية من السياسيين وأعضاء الكونجرس والقضاة ورجال الأعمال والصحافيين ، ورفعت إلى الرئيس الأمريكة بنجامين هاريسون فى 5/3/1891 . فى ذلك الوقت كان يهود روسيا يتدفقون عبر أوروبا إلى أمريكا . وكانت تلك الهجرة تقلق القيادات الأمريكية . وقد جاءت عريضة بلاكستون بالحل . وهو : لماذا لا نعيد اليهود إلى فلسطين ثانية ؟ .

الاحتجاج الذى قدمته إدارة الرئيس هاريسون إلى الحكومة الروسية بسبب سوء معاملة اليهود كان أول احتجاج أمريكى من هذا النوع . ولكن ما دام حل الولايات المتحدة لم تكن راغبة فى استيعاب المهاجرين ، فلماذا لا يتم تحويلهم إلى فلسطين وتوطينهم فيها ؟

عكس هذا الأمر التوافق بين الصهيونية المسيحية والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة . وهو التوافق الذى ترجم فيما بعد موافقة فى البيت الأبيض وفى الكونجرس ( مجلس الشيوخ ومجلس النواب ) على وعد بلفور .

فى 31/8/1918 بعث الرئيس الأمريكى ودرو ولسون w.Wilson مذكرة إلى الحاخام ستيفن وايز s . wise يبلغه فيها موافقته على وعد بلفور . جاء فى المذكرة :

(( راقبت باهتمام مخلص وعميق العمل البناء الذى قامت به لجنة وايزمان فى فلسطين بناء على طلب الحكومة البريطانية . وأغتنم الفرصة لأعبر عن الارتياح الذى أحسست به نتيجة تقدم الحركة الصهيونية فى الولايات المتحدة ، والدول الحليفة منذ إعلان السيد بلفور باسم حكومته عن موافقتها على إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين ، ووعده بأن تبذل الحكومة البريطانية قصارى جهدها لتسهيل تحقيق ذلك الهدف مع الحرص على عدم القيام بأى عمل يلحق ذلك الهدف مع الحرص على عدم القيام بأى عمل يلحق الأذى بالحقوق المدينة لغير اليهود فى فلسطين ، أو حقوق اليهود ووضعهم السياسى فى دول أخرى )) .

هذا الموقف للرئيس الأمريكى أملته عليه فى الدرجة الأولى تربيته الدينية كابن لقسيس إنجيلى يؤمن بأن الله أعطاه فرصة تاريخية لتحقيق الإرادة الإلهية بمساعدة شعب الله المختار على استعادة الأرض التى خصه الله بها .

أما الكونجرس الأمريكى فقد أيد ، بمبادرة من السيناتور هنرى كابوت لودج رئيس لجنة العلاقات الخارجية ، وعد بلفور فى يونيو – حزيران 1922 ، وأصدر بياناً بذلك ، جاء فيه (( أن الولايات المتحدة الأمريكية تؤيد إقامة وطن قومى للشعب اليهودى فى فلسطين وفقاً للشروط التى يتضمنها وعد الحكومة البريطانية الصادر فى الثانى من نوفمبر – تشرين الثانى – من العام 1917 ، والمعروف بوعد بلفور )) .

وفى نهاية الشهر نفسه ، وافق مجلس النواب الأمريكى على وعد بلفور فى بيان جاء فيه :
(( حيث إن الشعب اليهودى كان يعتقد لقرون طويلة ويتشوق لإعادة بناء وطنه القديم ، وبسبب ما تمخضت عنه الحرب العالمية ودور اليهود فيها ، فيجب أن يمكن الشعب اليهودى من إعادة إنشاء وتنظيم وطن قومى فى أرض آبائه مما يتيح لبيت إسرائيل فرصته التى حرم منها لفترة طويلة ، وهى إعادة تأسيس حياة يهودية وثقافية مثمرة فى الأرض اليهودية القديمة )) .

وفى 21/9/1922 ، وافق المجلسان معاً على وعد بلفور كخطوة تأكيدية للموافقة المنفردة لكل منهما ، ومنذ ذلك التاريخ ، أصبحت الولايات المتحدة شريكة بريطانيا فى تنفيذ الوعد الذى أصبح وعداً بريطانيا أمريكياً مشتركا .

لم يقتصر نشاط الصهيونية المسيحية الأمريكية على مجرد تأييد وعد بلفور ، بل تجاوزه إلى :
1. حث اليهود على التجاوب مع نداء العودة . حتى إن بلاكستون ( الذى يصفه اليهود بأنه أب الصهيونية الأمريكية ) بعث إلى هرتزل نسخة من العهد القديم old testament يشير فيها إلى مقاطع خاصة تتحدث عن استعادة اليهود أرض فلسطين لحثه على دعوة اليهود إلى العودة . ولا تزال هذه النسخة من العهد القديم محفوظة فى قبر هرتزل فى القدس حتى اليوم .

2. حث السلطان العثمانى على قبول توطين اليهود فى فلسطين . وقد مارس هذا الدور بشكل أساسى سفير الولايات المتحدة فى الآستانة ليو والاس lew wallace . ومارسه أيضا قنصل الولايات المتحدة فى القدس إدوين والاس edwine wallace صاحب كتاب (( القدس المقدسة )) jerusalem، وفيه يعترف بأنه إذا كان توطين اليهود غير مقبول الأن ، فإنه سيكون مقبولاً فيما بعد . وهو الأسلوب الذى لا يزال معتمداً حتى الآن فى سياسة التوطين والتوسع اليهودية .

3. تكوين المنظمات والهيئات الشعبية والدينية لتوفير الدعم المعنوى والمادى من أجل تحقيق النبوءات التوراتية بإعادة اليهود إلى فلسطين . من أوائل هذه المنظمات (( الفدرالية الأمريكية المؤيدة لفلسطين )) pro – palestine federtion of amerca التى أسسها فى العام 1930 القس تشارلز راسل ch . e . rusell ومنظمة (( اللجنة الفلسطينية الأمريكية )) American palestine committee التى أسسها فى العام 1932 السيناتور روبرت واجنر r. wagner وضمت 68 عضواً من مجلس الشيوخ و200 عضو من مجلس النواب وعدداً من رجال الدين الإنجيليين ورجال أعمال وأساتذة جامعات ، وصحافيين وأدباء مشهورين . كما تأسست فى العام 1942 منظمة (( المجلس المسيحى لفلسطين )) christian council palestine على قاعدة وعد بلفور وتحقيقاً له ، من القساوسة البرتستانت ومن شخصيات مالية وسياسية وحكومية بارزة . هذه المنظمات رفعت شعار الأرض الموعودة ، وشعار الشعب المختار ، وربطت بين الشعارين ، وعملت الناس أن أفضل عمل يقوم به المسيحى تقرباً وزلفى إلى الله ، هو المساهمة المادية والمعنوية فى تحقيق إرادة الله بإعادة اليهود اليهود إلى فلسطين تمهيداً لعودة المسيح .



الصهيونية اليهودية ، ومن إسرائيل . فالكونجرس الأمريكى – تبنياً منه لقرار المؤتمر الصهيونى اليهودى الذى عقد فى نيويورك فى العام 1942 – اتخذ فى العام 1944 قراراً (( تتعهد الولايات المتحدة بموجبه بذل قصارى جهدها من أجل فتح أبواب فلسطين أمام اليهود للدخول إليها بحرية ولإتاحة الفرصة أمامهم لاستعمارها حتى يتمكن الشعب اليهودى من إعادة تكوين فلسطين يهودية ديمقراطية حرة )) .

لقد استعمل الكونجرس الأمريكى عبارة إعادة تكوين فلسطين بدلاً من العبارة التى استعملها المؤتمر الصهيونى اليهودى فى بيان مؤتمر نيويورك وهى تكوين دولة يهودية فى فلسطين . فكانت الصهيونية المسيحية أشد مغالاة وأكثر تطرفاً من الصهيونية اليهودية !! .

فى الأساس أرسى الرئيس الأمريكى وودرو ولسون قاعدة الالتزام الأمريكى بالوطن القومى اليهودى من خلال التزامه بوعد بلفور . وأصبح هذا الالتزام من ثوابت كل الرؤساء الذين جاؤوا بعده وخاصة روزفلت وترومان .

لعل أهم ما قام به الرئيس روزفلت هو ممارسة الضغط على بريطانيا لحملها على التراجع عن الكتاب الأبيض للعام 1939 ، الذى نص على تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين . ذلك أن الصهيونية المسيحية التى كان يشارك روزفلت الإيمان بها كانت ترى فى هذا التحديد عرقلة لإدارة الله وتعطيلاً لنبوءات المقدسة .

فى تلك الفترة بدأ الثقل السياسى ينتقل من بريطانيا إلى الولايات المتحدة . ولما توفى روزفلت فى 12/4/1945 تولى الرئاسة هارى ترومان الذى يعتبر الرئيس الأكثر تجسيدأً للصهيونية الأمريكية فى العصر الحديث . لقد حث ترومان رئيس وزراء بريطانيا اتلى فى 13/8/1947 على السماح لمئة ألف يهودى بالهجرة إلى فلسطين وذلك لتأمين أغلبية يهودية فى فلسطين فى ظل الانتداب البريطانى تميداً لتحويل فلسطين إلى دولة يهودية بعد إنهاء فترة الانتداب .

وكان ترومان فظاً للغاية فى رسالته التى وجهها ألى الملك عبد العزيز آل سعود فى 28/10/1948 ، والتى اعتبر فيها أنه من الطبيعى أن تشجع الإدارة الأمريكية هجرة اليهود من أوروبا إلى فلسطين .. لإقامة الوطن القومى اليهودى .

وبرغم أن الملك عبد العزير رفض رسالة الرئيس الأمريكى وعارضها بشدة ، فإنها تعتبر أول إقرار رسمى أمريكى بالالتزام بالوطن القومى اليهودى وبتهجير اليهود إلى فلسطين .

وهكذا اعترف ترومان فعلياً بإسرائيل فى 14/5/1948 ، وحتى قبل أن تطلب منه حكومة إسرائيل المؤقتة ذلك بشكل رسمى . كان لتربيته الدينية الأثر الأساسى فى هذا التوجه . كان ترومان مثل إبراهام لنكولن قد درس التوراة على نفسه ، وكان يؤمن بالتبرير التاريخى لوطن قومى يهودى ، وبأن وعد بلفور يحقق الآمال القديمة للشعب اليهودى .

كان ترومان كمعمدانى يحس بشىء عميق له مغزاه فى فكرة البعث اليهودى ، وكان معروفاً عنه حبه للفقرة التوراتية الورادة ف بالمزمار 137 والتى تبدأ (( لقد جلسنا على أنهار بابل ، وأخذنا نبكى حين تذكرنا صهيون )) . ولقد اعترف ترومان أنه ما من مرة قرأ فيها قصة إنزال الوصايا العشر فى سيناء إلا وشعر بوخز خفيف يسرى فى عروقه ، وقد صرح بأن (( موسى تلقى المبدأ الأساسى لقانون هذه الأمة على جبل سيناء )) .

لم يكد يصدر الإعلان الرسمى بقيام إسرائيل فى العام 1948 حتى بادرت الولايات المتحدة إلى تقديم منحة لها قدرها مئة مليون دولار مخصصة لمشاريع التنية ، بالإضافة إلى قرض – تحول إلى منحة – بقيمة 35 مليون دولار .

مع الوقت كانت المساعدات الأمريكية لأسرائيل تتضاعف حتى إن معدل هذه المساعدة بالنسبة للفرد الواحد ، بلغ فى العام 1952 ، 48 دولاراً لإسرائيلى ، مقابل سبعة دولارات وعشرين سنتاً للأوروبى ودولار واحد وثلاثة سنتات للعربى .

جنباً إلى جنب ، مع المساعدة المالية والعسكرية لإسرائيل ، فرض حظر أمريكى على بيع الأسلحة للعرب ، وجرت محاولات لإخضاع الدول العربية بضمها إلى الأحلاف العسكرية والسياسية التابعة للولايات المتحدة . كما جرت محاولات للضغط على الدول العربية من أجل رفع المقاطعة عن إسرائيل وللتفاوض معها والاعتراف بها والتعايش معهاً وفق الشروط الإسرائيلة للتسوية . وكما أن إقامة إسرائيل كان يعتبر عملاً دينيًا بموجب تعاليم الكنيسة الصهيونية المسيحية ، كذلك فإن المحافظة على إسرائيل ومساعدتها ودعمها والدفاع عنها ، يؤلف عملاً دينيًا أيضاً بموجب تعاليم هذه الكنيسة .

يوجد فى الولايات المتحدة 76.754.009 مليون دولار بروتستنتى ينتمون إلى 200 طائفة . أكبر هذه الطوائف مغالاة فى تبنى العقيدة الصهيونية هى الطائفة التدبيرية indispensationalism التى يبلغ عدد أتباع كنائسها المختلفة 40 مليوناً تقريباً . وتعرف مجموعة هذه الكنائس باسم كنائس الأنكلوساكسون البروتستانت البيض ( w.a.s.p ) white anglo – saxon protestant وهى تضم الشخصيات الأبرز فى المجتمع الأمريكى سياساً واقتصادياً وتربوياً وإعلامياً وعسكرياً . أما أبرز أعلام هذه الطائفة من القساوسة الإعلاميين التلفزيونيين فهم :

بات روبرتسون pat robertson : الذى يستضيف برنامجاً بمدة تسعين دقيقة يومياً يدعى نادى السبعمئة 700 club ( سمى كذلك نسبة إلى 700 مساهم معه ) . هذا البرنامج يصل إلى أكثر من 16 مليون عائلة ، أى إلى أكثر من 19 بالمئة من الأمريكيين الذين يملكون أجهزة تلفزيون .

إن روبرتسون ابن السيناتور السابق عن ولاية فرجينيا ويليس روبرتسون willis robertson متخرج فى مدرسة الحقوق فى جامعة بال ، وهو يوظف نحو 1300 شخص لإدارة شيكته التلفزيونية المسيحية سى . بى . إن . ( c.b.n) christian broadcasting net work وتقوم الإدارة المركزية للشبكة على مساحة 679 آكر فى ضاحية شاطىء فرجينيا بقيمة 22 مليون دولار . وتضم سى . بى . إن . نادى السبعمئة ، ثلاث محطات تافزيزنية ، محطة راديو ، محطة تليفزيون سى . بى . إن بالاشتراك مع محطة تليفزيون فى جنوب لبنان ، مراسلين فى أكثر من 60 دولة ، جامعة ، نظاماً للمساعدة الدولية ومجموعة ضغط ( لوبى ) .

فى مطلع عام 1986 ، بدأت سى . بى . إن c.b.n برنامجاً إخبارياً لمدة نصف ساعة يومياً ( سى . بى . إن . أخبار الليل ) . وهى تقدم أخباراً من وجهة نظر مسيحية صهيونية إلى 27.3 مليون مشاهد تلفزيونى يشتركون فى محطة البث . ويتألف جهاز المحطة من مئة فنى يعملون خارج الاستديومات فى واشنطن وفى الإدارة المركزية فى فرجينيا بيتش ، التى تدير مكاتب فى القدس وبيروت ، وفى عام 1986 خطط لافتتاح مكاتب فى لندن ونيويورك ولوس أنجيلوس .

إن عمليات روبرتسون تحقق عائدات سنوية تزيد على 200 مليون دولار . وفى مطلع عام 1986 وصل نفوذ روبرتسون وقوته إلى حد أنه بدأ يفكر فى الوصول إلى المكتب البيضاوى فى البيت الأبيض . بات روبرتسون ، رئيساً للولايات المتحدة ؟ تساءلت صحيفة نيويورك تايمز فى تعليق للكتاب توم فيكر tom wicker فى أكتوبر 1985 وقالت : (( لا تسخر . إن ترشيح روبرتسون فى عام 1988 هو أكثر الاحتمالات مخادعة )) . وكتب فيكر : إن هناك 24 مليون مشاهد للمحطة التلفزيونية المسيحية ، وأضاف : إن احتمال ترشيح روبرتسون يقوم على لوائح كبيرة من المساهمين ، والممولين ، وكذلك على إقبال من المشاهدين يفوق عددهم قراء صحف التايم ونيوزويك ، ونيويورك تايز ، ولوس أنجيلوس تايمز والواشنطن بوست مجتمعة .

جيمى سواجرت jimmy swaggart : الذى يدير عمليات من باتون روج فى لويزيانا baton rouge, louisana ، وهى ثانى أكثر محطات التليفزيون الإنجيلية الصهيونية شهرة : استنادًا إلى استقصاء مؤسسات ( نلسون ) .


إنه يصل إلى 4.5 مليون منزل يومياً ( أو 5.4% بالمئة من المشاهدين ) وإلى ما مجموعه 9 ملايين وربع المليون أسرة ( أو 10% من المشاهدين ) أيام الآحاد .

جيم بيكر jim bakker : الذى يملك ثالث أشهر محطة تافزيونية تبشيرية . بدأ عمله الدينى متتلمذاً على ( بات روبرتسون ) . إنه يصل إلى نحو 6 ملايين منزل ( 6.8% بالمئة من المشاهدين ) . وبالإضافة إلى منزل فى مدينة شارلوت شمال كارولينا يملك ( بيكر ) وزوجته تامى منزلاً جبلياً فى بالم ديزرت palm desert ( صحراء النخيل ) بكاليفورنيا قيمته 449 ألف دولار ، بالإضافة إلى سيارتى رولس رويس ومارسيدس . وكجميع (( التدبيريين )) فهو يعتقد أنه علينا أن نخوض حرباً رهيبة من أجل فتح الطريق أمام المجىء الثانى للمسيح . إن محطته هى المحطة التاسعة عشرة من حيث الحجم فى أمريكا وتحقق أرباحاً سنوية تقدر بما بين 50 إلى مئة مليون دولار .
أورال روبرتس oral boberts: الذى تصل برامجه التليفزيونية اليوم إلى 5.77 مليون منزل ، أو 6.8% من المشاهدين . وقد ولد فى بيت متواضع فى أوكلاهوما عام 1918 من أب فلاح تحول إلى مبشر . يقول أورال روبرتس : إن الله طلب منه أن ينشى هذه الجامعة . ويقول : إن الله أخبره فى عام 1968 أن يترك الكنيسة المقدسة فى بنتوكوستال pentocostal وأن يصبح قسيساً فى كنيسة (( ميثوديست )) . وفى عام 1977 عندما فقد ابنته وزوجها فى حادث تحطم طائرة ، قال روبرتس : إن الله أوحى إليه ببناء مستشفى مدينة الإيمان city of faith hospital . إنه واحد من اثنين من الأمريكيين الذين بنوا منفردين جامعة ومدرسة طبية ومستشفى ( الشخص الآخر كان جونز هوبكنز ) .

جيرى فولويل jerry falwell: الذى تصل دروسه التبسيرية الأسبوعية إلى 5.6 مليون منزل ، أى 6.6% من جميع المشاهدين . كان فولويل مثل روبرتسون فى عام 1985 منغمساً بعمق فى الشؤون السياسية . وفى شهر أغسطس ، وبعد أن أمضى خمسة أيام فى جنوب إفريقيا ، أيد الحكومة العنصرية ووصف الأسقف ديزموند توتو Desmond tutu الحائز على جائزة نوبل للسلام بأنه ألعوبة .

إن ملاحظة فولويل حول توتو سبتت له تراجعًا قدره مليون دولار أقل فى حجم العطاءات التى كانت متوقعة فى عام 1985 . وفى نوفمبر ، من نفس العام ، سافر فولويل إلى مانيلا حيث أيد دكتاتورية ماركوس marcos ووصف الفلبين الممزقة بالجنة . وفى الثالث من يناير العام 1986 ، أعلن فولويل عن تكوين منظمة جديدة تدعى (( فيديرالية الحرية )) liberty federation ولكى تكون بمثابة الأم (( للمجموعة المعنوية )) moral majority التى يقودها فقد غير الاسم ( استنادا إلى فولويل ) ليتمكن أتباعه من توسيع مجالات العمل وتسريع النمو .

كذلك فى 25 من يناير – كانون الثانى – 1986 أقام فولويل حفل غداء فى مدينة واشنطن على شرف نائب الرئيس جورج بوش وقد أخبر فولويل ضيوفه الخمسين ، الذين حضروا مجاناً حفل الغداء السخى : بوش سيكون أفضل رئيس فى عام 1988 .

وقبل أسبوع ، من هذا الغداء ، أعلن فولويل عن شراء شبكة تلفزيزن بالكابلات . وهى الشركة المسيحية الوطنية التى كانت تواجه متاعب مالية : وغير فولويل اسمها إلى محطة الحرية للبث liberty broadcasting net work . إن شبكة المحطة الجديدة التى تعمل من ليشبورج فى فرجينيا سوف تعرض برامج دينية مدة 24 ساعة فى اليوم بما فيها برنامج يدور حول فولويل نفسه .

كينيث كوبلاند kenneth copeland : الذى يصل إلى 4.9 مليون منزل ، أى 5.8% من المشاهدين فى الأسبوع .

إنه متخرج فى جامعة أورال روبرتس oral boberts university ومؤمن بالتدبيرية ، ويرى أن إسرائيل الحديثة وصهيون الإنجيلية هما شىء واحد . ويقول (( إن الله أقام إسرائيل . إننا نشاهد الله يتحرك من أجل إسرائيل .. إنه لوقت رائع أن نبدأ بدعم حكومتنا ما دامت تدعم إسرائيل .. إنه لوقت رائع أن نشعر مدى تقديرنا إلى جذور إبراهيم )) .

وبالرغم من ذلك فإن كوبلاند لا يحب بالضرورة إسرائيل كما هى ، إنما يعبر عن حبه لإسرائيل لأنه وأتباعه يرون أنها المسرح الذى سيقدم عليه مشهد معركة هرمجدون armageddon وعودة المسيح إنهم يعبرون عن حبهم لليهود ليس لأنهم يهود ولكن لأنهم يرون فيهم الممثلين الذين لابد منهم على مسرح النظام الدينى الذى يقوم على أساس تحقيق المسيحية الكاملة .

ريتشارد دى هان richard de haan : الذى يصل فى برنامجه (( يوم كشف النظام )) day of discovery إلى 4.75 مليون منزل ، أى 48% من المشاهدين .
إنه ابن ( القس دى هان ) من متشيجن الذى طور الكنيسة التدبيرية ربما أكثر من أى قس أمريكى أخر .
ريكس همبرد rex humb الذى يصل إلى 3.7 مليون منزل ، أى نحو 4.4 بالمئة من مجموعة المشاهدين ، إنه يبشر بتعاليم سكوفيلد حول التدبيرية ، وهى تقول : (( إن الله كان يعرف منذ البدية الأولى إننا ، نحن الذين نعيش اليوم ، سوف ندمر الكرة الأرضية )) .
لقد ذكرت سبعة من الذين يقدمون البرامج الدينية ويبشرون بنظرية هرمجدون فى الإزاعة والتليفزيون . ومن بين 4 آلاف أصولى إنجليى ، يشتركون سنوياً ، فى مؤتمرات الإذاعتات الدينية الوطنية ، هناك ثلاثة آلاف يتعقدون أن كارثة نووية فقط يمكن تعيد المسيح إلى الأرض ، إن هذه الرسالة تبث عبر 1400 محطة دينية فى أمريكا . ومن بين 80 ألف قسيس إنجيلى يذعون يومياً من خلال 400 محطة إذاعة فإن الأكثرية الساحقة منهم من التدبيريين ))

اتخذت هذه الكنائس من الأجهزة الإعلامية العامة بكل ما تتمتع به هذه الأجهزة من تقنية وسعة انتشار ، منابر لها للوعظ الدينى وللإرشاد السياسى . وبلغ تأثيرها على صناعة القرار السياسى الأمريكى تجاه القضية الفلسطينية الصراع العربى – الصهيونى حد المشاركة فى صنع القرار ، وتوجيه السياسة الأمريكية وفق النبوءات الدينية التى تقول بعودة اليهود إلى فلسطين ، وقيام صهيون ، ومن ثم ظهور المسيح .

تعتقد الصهيونية المسيحية أن ثلاث إشارات يجب أن تسبق عودة المسيح :
« الإشارة الأولى هى قيام إسرائيل ، وقد قامت إسرائيل فى العام 1948 م . ولذلك اعتبر الصهيونيون المسيحيون فى الولايات المتحدة هذا الحدث أعظم حدث فى التاريخ لأنه جاء مصدقاً للنبوءة الدينية .
« الإشارة الثانية هى احتلال مدينة القدس . ولقد احتلت إسرائيل القدس فى العام 1967 التى ينضر الانجيليون من الصهيونيين المسيحيين على أنها المدينة التى سيمارس المسيح حكم العالم منها بعد قدومه الثانى المنتظر . ولذلك تضغط الكنائس الصيونية المسيحية فى الولايات المتحدة من أجل الاعتراف بالقدس عاصمة موحدة وأبدية لإسرائيل . ولقد تجاوب مجلسا الشيوخ والنواب مع هذه الضغوط فى إبريل – نيسان 1990 .
« الإشارة الثالثة هى إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى . لقد وضعت خريطة الهيكل الجديد ، فيما تتواصل الحفريات تحت المسجد بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة . وفى الوقت نفسه يتم إعداد وتدريب كهان الهيكل فى معهد خاص بالقدس . أما الأموال اللازمة فقد جمع معظمها وأودع فى حساب خاص باسم مشروع بناء الهيكل .

بعد اكتمال المشروع ، ستقع هرمجدون التى يظهر المسيح فوقها مباشرة وسيرفع إليه بالجسد المؤمنين به ليحكم العالم من القدس مدة ألف عام تقوم بعدها القيامة .

ففى شهر مارس – آذار من العام 1979 ، تحدث الرئيس الأمريكى جيمى كارتر أمام الكنيست الإسرائيلى ( وكان يعمل على إقرار معاهدة الصلح بين مصر وإسرائيل ) فقال : (( جسد من سبق من الرؤساء الأمريكيين الإيمان بأن جعلوا علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل هى أكثر من علاقات خاصة . إنها علاقات فريدة لأنها متأصلة فى ضمير وفى أخلاق وفى دين وفى معتقدات الشعب الأمريكى نفسه . لقد أقام كلا من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ، مهاجرون رواد ، إننا نتقاسم معكم تراث التوراة )) .

يمثل الرئيس الأمريكى السابق رونالد ريجان محطة بارزة فى هذا الطريق من المفيد الوقوف عندها بتفحص دقيق . عندها كان ريجان حاكماً لولاية كاليفورنيا كان من أتباع ومن دعاة الصهيونية المسيحية . وبقى على إيمانه هذا بعد انتخابه رئيسًا للولايات المتحدة فى العام 1980 ، وبعد التجديد له ولاية ثانية فى العام 1984 . وكان إيمانه يحمله على التمسك بإيديولوجية معركة هرمجدون .

يروى جيمس ميلز HAMES MILES الرئيس السابق لمجلس الشيوخ فى ولاية كاليفورنيا فى عدد شهر آب – أغسطس 1985 من مجلة سان دياغو SAN DIEGO MAGAZINE ، الحادثة التالية :

كانت تلك السنة الأولى فى الولاية الثانية من حاكمية ريجان وكانت السنة الأولى التى ينتخب فيها ميلز رئيساً لمجلس شيوخ الولاية . كان الإثنان يجلسان جنباً إلى جنب فى مأدبة أقيمت فى سكرامنتو على شرف ميلز . فى أثناء الاحتفال سأل ريجان ميلز بصورة غير متوقعة تماماً إذا كان قرأ الفصلين 38 و39 من حزقيال EZEKIEL . أكد ميلز للحاكم أنه ترعرع فى بيت مؤمن بالكتاب المقدس ، وأنه قرأ وناقش المقاطع من حزقيال التى تتحدث عن يأجوج ومأجوج COG AND MAGOG ( التى يقول المؤمنون بالتدبيرية إن ذلك يعنى روسيا ) عدة مرات ، كما قرأ مراجع أخرى عن نهاية الزمن فى الفصلين 16 و 19 من سفر الرؤيا BOOK OF REVELATION .

قال ريجان : إن حزقيال رأى فى العهد القديم امذبحة التى ستدمر عصرنا . ثم تحدث ريجان بتركيز لاهب عن لبيا لتحولها إلى شيوعية ، وأصر على أن فى ذلك إشارة إلى أن يوم هرمجدون لم يعد بعيداً . عند ذلك بادر ميلز إلى تذكير ريجان بأن حزقيال يقول أيضاً : إن أثيوبيا ستكون من بين قوى الشيطان . وأضاف ميلز : إننى لا أستطيع أن أرى ( هيلاسيلاسى أسد يهوذا ) يخوض مع زمرة من الدمى حرباً ضد شعب الله المختار .

قال ميلز : إنه لا يعتقد أن ذلك ممكن ، غير أن ريجان أصر بقوله : أنا أعتقد ذلك ، وأظن أنه لا مفر منه ، إنه ضرورى لتحقيق النبوءة بأن أثيوبيا ستكون واحدة من الأمم المعادية لله التى تحارب إسرائيل . ( بعد ثلاث سنوات من هذا الحديث أشار ميلز فى مقالته إلى أن الشيوعيين أسقطوا هيلاسيلاسى وأن ريجان كان سعيداً بأن يرى ما يبدو أنه تحقيق لنبوءة تتعلق بالمسيح ) .

فى العشاء الذى أقيم فى العام 1971 تحدث ريجان عن هرمجدون نووية قادمة وقال ميلز : إن حديث ريجان بدا كحديث مثير إلى طالب كلية . قال ريجان لمليز : إن جميع النبوءات التى يجب أن تتحقق قبل هرمجدون قد مرت ، ففى الفصل 38 من حزقيال أن الله سيأخذ أولاد إسرئيل من بين الوثنيين حيث سيكونون مشتتين ويعودون جميعهم مرة ثانية إلى الأرض الموعودة . لقد تحقق ذلك أخيراً بعد ألفى سنة ، ولأول مرة يبدو كل شىء فى مكانه بانتظار معركة هرمجدون والعودة الثانية للمسيح . وعندما ذكر ميلز ريجان أن الشىء الوحيد الذى ينص عليه الكتاب المقدس بوضوح هو أن العودة الثانية للمسيح لا يعرف أحد متى ستحدث ، رد ريجان بصوت عال : (( إن كل شىء يأخذ مكانه . لن يطول الوقت الآن ، إن حزقيال يقول : إن النار والحجارة المشتعلة سوف تمطر على أعداء شعب الله . إن ذلك يجب أن يعنى أنهم سوف يدمرون بالسلاح النووى . إنهم موجودن الآن ولكنهم لم يكونوا موجودين فى الماضى )) .

وتابع ريجان يقول : (( إن حزقيال يخبرنا أن يأجوج ومأجوج الأمة التى ستقود قوى الظلام الأخرى ضد إسرائيل سوف تأتى من الشمال . إن أساتذة الكتاب المقدس يقولون منذ أجيال : إن يأجوج ومأجوج يجب أن تكون روسية )) .

ما الأمم القديمة الأخرى الموجودة إلى الشمال من إسرائيل ؟ لا شىء . لقد كان ذلك غير منطقى قبل الثورة الروسية عندما كانت روسيا دولة مسيحية . إلا أن لذلك معنى الآن وقد أصبحت روسيا شيوعية وملحدة ، الآن وقد وضعت روسيا نفسها ضد الله ، الآن تنطبق مواصفات يأجوج عليها تماماً .

ولكن ماذا بعد الوفاق الأمريكى – السوفييتى فى ضوء البيروسترويكا والجلاسنون ؟ .

فى عام 1976 ناقش ريجان معركة هرمجدون فى مقابلة مسجلة مع جورج أوتيس الذى سبق له وأن تنبأ بوصول ريجان إلى الرئاسة الأمريكية .

يقول أوتيس فى كتابه (( شبح هاجر )) the ghost of hagar أنه ينتظر تحقيق نبوءة حرب يأجوج ومأجوج ( التى تفسر بأنها غزو سوفييتى لإسرائيل فى المستقبل القريب ) ، وقد سأل ريجان إذا كان يعتقد أنه سوف ينقذ من هذه المجزرة الرهيبة خلال الحرب النهائية ،
علما بأن الخلاص من هذه المرحلة استناداً إلى المؤمنين بالتدبيرية لا يكون إلا إذا كان المسيحى ( مولودًا مرة ثانية ) . وقد أجاب ريجان : إنه مولود مرة ثانية ويشعر بذلك ويؤمن به .

تحدث الحاكم ريجان أيضاً عن هرمجدون إلى الإنجيلى هارولد برتسون HERALD BREDESEN من كاليفورنيا ، وفى إحدى المناسبات زار ريجان كلا من برتسون والمغنى بات بون وجورج أوتيس فى منزله ، ولقد سر برتسون ودهش فى الوقت نفسه لمبادرة ريجان إثارة موضوع النبوءات الإنجيلية أمام زواره . ونقل برتسون عنه قوله : (( إذا كان اليهودى غير مخلص لله فهل أن الله سيشتته فى أطراف الأرض ؟ وحتى بعد أن يحدث ذلك هل سيغسل الله يديه منهم ؟ إن النبى يفسر لنا أنه قبل عودة ابنه ، فإن الله سوف يعيد جمعهم فى إسرائيل ويفسر لنا حتى طريقة نقلهم التى سيستعملونها . لقد قال النبى : إن بعضهم سوف يأتى بالباخرة وأن بعضهم سوف يعود كالحمام إلى أعشاشه . وبكلمات أخرى سيأتون بالباخرة أو بالبطائرة . وستولد الأمة فى أحد الأيام )) .

وأشار ريجان بالتأكيد إلى حقيقة الوعد بأن القدس سوف تدنس تحت أقدام العامة ( جنتيل ) إلى أن ينتهى وقت هذه العامة . وأن هذه النبوءة تحققت فى عام 1967 عندما أعيد توحيد القدس تحت العلم الإسرائيلى .. ويقول برتسون : إن ما أثارنى بصورة خاصة هو أن ريجان قد نما روحيًا بشكل كبير . والمثال على إدراكه الشامل لما يجرى فى ضوء مسلسل النبوءات ، قدرته على تحديد اليوم منذ عام 1948 الذى أعيد فيه بناء إسرائيل كأمة .

لقد تملكنى الشعور بأن ريجان يدرك تماماً أهداف الله فى الشرق الأوسط . ومن أجل ذلك السبب فإنه يشعر بأن المرحلة التى نمر بها الآن هى مرحلة بارزة ما دامت أن الأحداث الواردة فى الكتاب المقدس تتحقق فى هذا الوقت .

عندما كان ريجان مرشحًا للرئاسة فى عام 1980 كان يواصل الحديث عن هرمجدون ، وقد قال ريجان ( وهو مرشح للرئاسة ) للإنجيلى جيم بيكر فى مقابلة تافزيونية أجرها معه : (( إننا قد نكون الجيل الذى سيشهد هرمجدون )) .

ويقول المؤلف الإنجيلى دوج ويد DOUG WEAD الذى كان حاضراً المقابلة : إنه سمع ريجان يردد مراراً : إن نهاية العالم قد تكون فى متناول يدنا )) . وفى حفل عشاء فى منزل ريجان فى كاليفورنيا حضره ويد ، تحول الحديث إلى الاتحاد السوفيتى وإلى النبوءة الإنجيلية .وفى وسط النقاش أعلن ريجان ( استناداً إلى ما يقوله ويد ) أمام ضيوفه : أننا ربما نكون الجيل الذى يحقق هرمجدون . وفى نفس العام 1980 أعطى ريجان مرشح الرئاسة مثلا آخر ما نقله معلق صحيفة نيويورك تايمز وليم سافير WILLIAM SAFIRE : كان ريجان يخطب فى مجموعة من القادة اليهود عندما قال : (( إسرائيل هى الديمقراطية الثابتة الوحيدة التى يمكن أن نعتمد عليها كموقع لحدوث هرمجدون )) . وفى مقابلة صحفية أجراها الصحافى روبرت شير ROBERT SCHEER فى مارس – آذار 1981 مع جيرى فولويل ، كشف فولويل عن أن الرئيس ريجان قال له مرة : إن تدمير العالم قد يحدث (( سريعاً جداً)) . وإن التاريخ سيصل إلى ذروته . وأبلغ فولويل الصحافى أيضاً أنه لا يعتقد أنه بقيت أمامنا خمسون سنة أخرى . وسأل الصحافى ما إذا كان ريجان يوافق على ذلك أيضا ، فأجاب : بالتأكيد ، لقد أخبرنى ريجان بذلك ، ونقل فولويل عن ريجان قوله له : (( جيرى ، إننى أحياناً أومن بأننا نتوجه بسرعة كبيرة الآن نحو هرمجدون )) .

وبعد ذلك بعاميين ، رتب ريجان لفولويل حضور اجتماع مجلس الأمن القومى ليستمع إلى الملخصات التى تقدم ، وليناقش كبار المسؤولين الأمريكيين فى احتمال وقوع حرب نووية مع روسيا . كذلك ، واستناداً إلى هول لندسى ، وافق ريجان أيضاً على ان يلقى مؤلف كتاب (( آخر أعظم كرة أرضية )) THE LAST GREAT PLANET EARTH كلمة حول الحرب النووية مع روسيا أمام استراتيجيى البنتاجون .

فى أحد أيام أكتوبر – تشرين أول – من عام 1983 ، كشف ريجان أن هرمجدون لا تزال تشغل باله . فقد اتصل هاتفياً بتوم داين TOM DINE من لجنة العلاقات العامة الأمريكية – الإسرائيلية ، وهى أكثر منابر اللوبى المؤيد لإسرائيل قوة . واستناداً إلى داين ، قال الرئيس ريجان :

(( كما تعرف ، فإننى استند إلى أنبيائك القدامى فى العهد القديم وإلى المؤشرات التى تخبر مسبقاً بهرمجدون ، وإنى أتساءل إذا كنا نجن الجيل الذى سيشهد ذلك . لا أعرف إذا كنت قد لاحظت مؤخرا أيا من هذه النبوءات ، ولكن صدقنى إنها تصف الوقت الذى نمر به )) .

خاطب ريجان الاتحاد الوطنى للمذيعين الدينيين ثلاث مرات فى أعوام 1982 ، 1983 ، 1984 . ويتألف هذا الاتحاد فى معظمه من المؤمنين (( يالتدبيرية )) ، وقال : (( إن الحرب النووية مقبلة علينا . وأن ذلك سيحدث بأسرع مما نتصور )) .

وفى عام 1983 ، كشف ريجان عن أهمية الكتاب المقدس فى حياته قائلا للمذيعين الدينيين : (( بين دفتى هذا الكتاب الوحيد توجد جميع الإجابات على جميع المشاكل التى تواجهنا اليوم )) .

وكتب ميلز فى تلك المقالة التى نشرتها مجلة سان ديجو SAN DIEGO أن ريجان كرئيس للولايات المتحدة أظهر بصورة دائمة التزامه القيام بواجباته تماشياً مع إرادة الله ، وذلك كأى مؤمن آخر يحتل منصباً عالياً . وقال مليز فى المقال : إن ريجان كان يشعر بهذا الالتزام بصورة أخص وهو يعمل على بناء القدرة العسكرية للولايات المتحدة ولحلفائها . وقال : (( صحيح أن حزقيال تنبأ بانتصار جيوش إسرائيل وحلفائها فى المعركة الرهيبة ضد قوى الظلام ، ومع ذلك فإن المسيحيين المحافظين مثل رئيسنا لا يسمح لهم التطرف الروحى بأن يأخذوا هذا الأنتصار كمسلمات . إن تقوية قوى الحق لتربح هذا الصراع المهم هو فى عيون هؤلاء الرجال عمل يحقق نبوءة الله انسجاماً مع إرادته السامية وذلك حتى يعود المسيح مرة ثانية ليحكم الأرض ألف سنة )) .


الفصل الثالث
بوابة أمريكا إلى الوطن العربى

بدأت الولايات المتحدة خطواتها الأولى باتجاه الوطن العربى فى العا 1784 عندما ألف الكونجرس فى شهر ايار – مايو – من ذلك العام لجنة خاصة للتفاوض مع ليبيا وتونس والجزائر والمغرب بشأن عقد اتفاقات تضمن سلامة السفن التجارية الأمريكية فى البحر المتوسط ، خصص الكونجرس مبلغ 80 ألف دولار من أجل ذلك ، وقد نجح الموفد الأمريكى ثوماس باركلى Thomas Barclay فى عقد اتفاق مع المغرب فقط ( فى يوليو – تموز – 1786 ) وفشل فى كل من ليبيا والجزائر ، وابرم الكونوجرس الاتفاق مع المغرب الذى منح التجارة الأمريكية حقوق الدولة الأكثر رعاية فى نفس الشهر من العام التالى 1787 ، وأقر توجيه رسالة شكر إلى إمبراطور المغرب .

كانت الولايات المتحدة تدفع سنوياً 140 ألف دولار رسوم المرور فى المتوسط للأقطار العربية فى الشمال الإفريقى ، وعندما قررت الامتناع عن الدفع وقعت الاضطرابات. وفى مارس – آذار من العام 1794 ، وافق الكونجرس الأمريكى على تمويل بناء أسطول حربى لضرب الجزائر , وكان الأسطول يتألف من ست قطع لم تكن حرية الملاحة فى البحر المتوسط هى التى أملت إنشاء الأسطول ، بل كانت الولايات المتحدة تتطلع إلى دور فى الوطن العربى يتوافق مع إيمانها بعقيدة الصهيونية المسيحية ، وكان لابد من أجل أداء هذا الدور من حضور تجارى ودبلوماسى مدعوم بقوة عسكرية ، (( كان الدستور الجديد والأسطول الجديد ثمرة التجربة الأمريكية فى الشرق الأوسط )) .

أول قائد للأسطول الأمريكى فى البحر المتوسط كان الأدميرال ريتشارد دال Richard Dale ، وأول إعلان حرب أمريكى كان ضد ليبيا فى العام 1801 ، وكان توماس جيفرسون Thomas Jefferson رئيسا للولايات المتحدة .

بدأ حصار طرابلس فى حريران من العام 1802 ، إلا أن الضطرابات مع الجزائر والمغرب حملت قائد الأسطول على التراجع ، وخاضت الولايات المتحدة الحرب بعشر سفن، وتمكنت فى الرابع من يونيو – حزيران 1805 من حمل باشا طرابلس على توقيع اتفاق تسوية بموجب بنود اتفاقية أكرهت عليها طرابلس فى العام 1797 ، وفى نهاية العام 1806 عاد الأسطول الأمريكى إلى بلاده ، ولم يبق منه سوى ثلاث قطع فقط .
فى عام 1815 أعلنت الولايات المتحدة الحرب على الجزائر بحجة الدفاع عن المصالح الاقتصادية الأمريكية فى المنطقة ، ومن الجزائر انتقلت القوات البحرية إلى تونس ( فى الخامس من آب أغسطس 1816 ) وحملتها على توقيع على اتفاقية بشروط أمريكية .

(( كان من نتيجة ذلك تحسين سمعة الولايات المتحدة فى أوروبا وزيادة ثقة الرأى العام الأمريكى بحكومته وتعميم الشعور الوطنى الأمريكى )) .

انطلقت الولايات المتحدة من اتفاقات الإذغان التى فرضتها على أقطار المغرب العربى نحو الباب العالى فى اسطنبول ، وفى ذلك الوقت كانت الإمبراطورية العثمانية أشد كثافة سكانياً وأوسع مساحة من الولايات المتحدة ، واما أن عقدت معها اتفاق العام 1830 حتى أطلقت العنان للبعثات التبشيرية البروتستنتية ، وانتشرت ستون بعثة من هذا النوع – بقرار من المجلس الأمريكى للبعثات الخارجة

The American Board of Commioners For Foreign Missions " " من اليونان حتى إيران ، ومن اسطنبول حتى القدس . هذه البعثات هى التى مهدت الطريق أمام مشاريع الاستيطان اليهودى فى فلسطين عملا بتعاليم الصهيونية المسيحية التى تؤمن بها الكنيسة البروتستنتية الأمريكية ، وخلال فترة الخمسين عاماً من 1850 حتى 1900 كانت البعثات التبشيرية الأمريكية رأس الحربة التى كانت تمسك بها الحركة الصهيونية ، ففى العام 1880 ، وفى أثناء انعقاد مؤتمر مدريد الذى تقاسمت فيه الول الأروبية النفوذ والهيمنة على الوطن العربى ، (( أبدى الوفد الأمريكى المشارك اهتماماً بقضية أساسية واحدة هى ضمان سلامة وازدهار الجالية اليهودية فى طنجة )) .

ظلت السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتأرجح بين مصالحها الحيوية بالالتزام بمبدأ نرو لجهة عدم التدخل فى القضايا الدولية ، وبين هواجسها الدينية الملحة لجهة المساهمة فى إعادة إحياء صهيون تمهيداً للعودة الثانية للمسيح ، وقد تغلبت الهواجس على المصالح ، فتخلت عن مبدأ منرو ، الامر الذى جرها فيما بعد إلى الانغماس فى وحول الحربين العالميتين ، وما بعدهما من حروب ( كوريا ، فيتنام ... ) .

(( قبل دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الأولى كانت قوى الضغط ( اللوبى ) من المبشرين البروتستنت ومن الصهيونيين اليهود الأمريكين قد مارست قدرا كافيا من الضغط على المسؤولين فى الدوائر الحكومية الأمريكية من أجل الحصول على دور أمريكى أكثر فاعلية فى شئون الشرق الأوسط )) .

كان عدد سكان فلسطين فى العام 1914 أقل من 700 ألف شخص ، منهم 600 ألف عربى و 85 ألف يهودى ، أما فى الولايات المتحدة فكان يوجد 3 ملايين يهودى بينهم ثلاثة آلاف فقط أعضاء فى منظمات صهيونية ، فالصهيونية اليهودية فى الولايات المتحدة لم تنشط إلا بعد الحرب العالمية الأولى ، ومن أبرز أوائل الصهاينة اليهود لويس براديز Lewis Bradies الذى عين فى العام 1916 رئيسا لمجلس القضاء الأعلى ( المحكمة الاتحادية العليا )) وهو الذى كان الرأس المدبر وراء سياسة الرئيس ولسون الصهيونية )) ذلك أنه فى ظل إدارة الرئيس ولسون تبنت الدبلوماسية الأمريكية مطالب أشد الصهاينة اليهود والمسيحيين تطرفا فى فلسطين .أعربت تركيا فى العام 1917 عن استعدادها لعقد معاهدة سلام منفردة مع الولايات المتحدة ، ووافق الرئيس ولسون على ذلك على أساس أن هذه المعاهدة سوف تمكنه من تحقيق الوطن اليهودى فى فلسطين ، ولكن المتطرفين الصهيونيين اليهود – الذين كانت علاقتهم مع بريطانيا أشد وثوقاً فى ذلك الوقت – تخوفوا من احتمال عقد صفقة أمريكية – تركية تقلل من فرص تحقيق مشروعهم فى فلسطين ، وظف برانديز نفوذه لدى الرئيس ولسون ، فاضطر السفير الأمريكى إلى الباب العالى مورغنثو Morgenthau أن يصطحب معه فى الوفد المفاوض أحد غلاة الصهيونيين اليهود فى أمريكا فليكس فرانكفورتر Flix Frankfurter، كما اضطر السفير مورغنثو وهو فى طريقه إلى سويسرا لمقابلة الدبلوملسين الأتراك سراً ، إلى الوقوف فى جبل طارق حيث قابله هناك ادكتور وايزمان وتمكن من حمله على التراجع عن مهمته. وبدلاً من مشروع معاهدة السلام الأمريكية التركية حصلت الحركة الصهيونية على التزام من الرئيس ولسون بتأيد وعد بلفور البريطانى ، كانت هذه العلمية ، ربما ، أول عملية ضغط للوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة .

بين الحربين العالميتين الأولى والثانية ، اتخذ ضغط اللوبى الصهيونى الأمريكى توجها معاكساً . فبعد احتلال بريطانيا لفلسطين ، وبعد حصولها على حق الانتداب فى مؤتمر سان ريمو ( نيسان – أبريل 1920 ) ، وبعد موافقة عصبة الأمم على ذلك ( تموز – يوليو 1922 ) أرادت الحركة الصهيونية أن تحصل من بريطانيا على ضوء أخضر لفتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين ، وكان اليهود يكونون أقلية ضئيلة جداً ( 12% ) ، وكان منحهم وطناً فى فلسطين يتناقض مع مبادىء ولسون الأربعة عشر وخاصة مبدأ حق تقرير المصير ، وتركز الضغط الصهيونى على الولايات المتحدة أولاً لاستثناء اليهود من هذه القواعد والمبادىء باعتبار أن لهم حقًا إلهياً مقدساً فى فلسطين ، وثانياً لحمل بريطانيا على عدم تقييد الهجرة اليهودية باعتبار أن العودة هى إرادة إلهية أيضا ، وكما نجحت الصهيونية فى حمل الولايات المتحدة على القبول بوعد بلفور البريطانى نجحت الصهيونية الأمريكية فى حمل بريطانيا على فتح أبواب الهجرة اليهودية ، وهكذا سقطت (( الورقة البيضاء White paper التى أصدرتها وزارة الخارجية البريطانية فى العام 1939 والتى حددت عدد اليهود الذين يسمح لهم بالهجرة إلى فلسطين فى السنوات الخمس التالية بـ 75 ألفاً ، كما حددت مساحة الأراضى التى يسمح لليهود بتملكها .

كان تدخل الحركة الصهيونية ينطلق من الادعاء بأنه لا يحق لأى دولة أن تتدخل ضد إرادة الله فى تحديد عدد اليهود الذين يسمح لهم بالعودة إلى فلسطين ، أو فى تحديد مساحة تملكهم فى أرض الميعاد ، فالله يريد عودة كل اليهود إلى كل فلسطين ، والله منحهم صكاً أبدياً بملكية الأرض المقدسة لإقامة صهيون عليها ، وبالتالى ليس مقبولا ً من أى قوة على الأرض أن تتحدى إرادة الله أو أن تعرقل تنفيذها ..

(( وجدت الولايات المتحدة نفسها بعد الحرب العالمية الثانية منغمسة فى الشرق الأوسط . فقد تراجعت الهيمنة البريطانية وأخذت الولايات المتحدة مكانها فى أداء دور شرطى المنطقة وفى احتواء الاندفاع التوسعى السوفييتى التاريخى باتجاه البحر المتوسط .

فى الوقت نفسه كانت المشاعر الصهيونية تتنامى فى الولايات المتحدة ، وهى مشاعر تسير فى اتجاه معاكس لاتجاه المصالح الأمريكية الرئيسية ، وفى مقدمتها المصالح النفطية الجديدة ، وفى كل مرة كانت فيها إدارة أمريكية أو جهاز من أجهزتها يحاول كبح جماح اندفاع المشاعر الصهيونية لحساب المصالح الوطنية ، كانت هذه المشاعر تهيمن على القرار الأمريكى تحت مظلة القدسية الدينية التى كانت – ولاتزال – تتمتع بها .
كتب الملك عبد العزيز آل سعود إلى الرئيس الأمريكى روزفلت فى نيسان أبريل 1943 يحثه على عدم اتخاذ أى موقف من فليسطين قبل التشاور معه ، وبرغم أن الرئيس الأمريكى تعهد فى 26 من آيار – مايو – من العام نفسه باحترام التشاور مع الملك السعودى ، فإن الضغط الصهيونى ( اليهودى والمسيحى ) داخل الولايات المتحدة ، قطع الطريق عليه ، وفى هذا الوقت كانت الحركة الصهيونية قد كونت منذ العام 1941 بقيادة إيمانويل نيومان Emanuel Newmenn اللجنة الأمريكية الفلسطينية The American Palestine Committee التى تضم أعضاء فى الكونجرس والإدارة ورؤساء الجمعيات الأمريكية النافذة ، وكانت هذه اللجنة تتمتع بعضوية 68 سيناتورا و 200 نائب من أعضاء الكونجرس عندما دعت إلى تأييد البرنامج الصهيونى الذى اتخذ فى آبار – مايو – 1942 فى نيويورك والذى يعرف باسم برنامج بلطيمورBaltimore ، حتى إن الكونجرس أصدر فى العام 1944 قرارين يحث فيهما الإدارة الأمريكية على بذل جهودها من أجل إقامة (( كومنولث يهودى )) Jewish Commonwealth .

تصادف صدور القرارين مع مفاوضات أمريكية – سعودية لمد خط أنابيب التابلاين عبر السعودية ، وبرغم القلق الذى غمر وزارة الخارجية الأمريكية لما يؤلفه القرارن من خطر على المصالح الحيوية للولايات المتحدة ، فإن الرئيس الأمريكى اضطر فى النهاية للخضوع ، وكان روزفلت يحتاج إلى أصوات المقترعين فى الانتخابات الرئاسية فى العام 1944 ، فكان لابد له من الخضوع لابتزاز الصهيونية اليهودية والمسيحية .

وهكذا خلافاً لسياسة الولايات المتحدة تجاه الأقليات فى الإمبراطورية العثمانية ( البلغار ، واليونان ، والأرمن ، والعرب ) فإن الموقف الأمريكى من اليهود كان مختلفا ومميزاً ، وحدد هذا الموقف الأمريكى من موضوع الأقليات كوينسى ادامس Quincy Adams وجيمس مونرو James Monroe ، وهو (( التعاطف معها دون التدخل المباشر )) ، ولكن فيما يتعلق باليهود كان للولايات المتحدة الدور الرئيسى فى إقامة إسرائيل مما يمثل انحرافاً عن التقليد الأمريكى الذى حدده أدامس ومونرو . كما أن الولايات المتحدة كانت قد نصبت نفسها مدافعاً عن مبدأ حق تقرير مصير الشعوب ، ولكن تبًنيها للمطالب اليهودية فى فلسطين حيث كان العرب يؤلفون الأكثرية (86فى المئة ) انتهك هذا المبدأ تماماً .

إن اعتناق الرئيس هارى ترومان Harry Trumman للمسيحية لى منح حق المصير إلى الأقلية اليهودية ، وعلى حرمان الأكثرية العربية فى فلسطين من هذا الحق .

فى التاسع من أبريل – نيسان 1948، أبلغ الدكتور وايزمان الرئيس ترومان القرار الصهيونى بإعلان ولادة إسرائيل عند منتصف يل 14 آيار – مايو ، وحثه على أن يقبل الأمر الواقع Fait accompli وأن يكون أول عضو فى المجموعة الدولية يمنح إسرائيل الاعتراف .

الصهيونيون المسيحيون أقنعوا الرئيس ترومان بالتجاوب مما يحقق له نصراً فى الدنيا ( انتخابات 1948 ) وفى الآخرة ( تحقيق رادة الله فى صهيون ) ، وصباح يوم 13 من آيار – مايو – كان ممثلو الحركات الصهيونية اليهيودية والمسيحية يتحلقون حول الرئيس ترومان فى مكتبه فى البيت الأبيض بينهم إلياهو ابشتين Elihu Epstein ممثل المنظمة الصهيونية فى واشنطن ، وقد أبلغوه أن إسرائيل سوف تنضم إلى المجتمع الدولى كدولة مستقلة عند الساعة 6:01 حسب توقيت واشنطن . بعد ظهر اليوم نفسه صدر عن البيت الأبيض القرار بالاعتراف بإسرائيل .

من أجل حماية الكيان الجديد ، أرست الولايات المتحدة قاعدتين لسياسة مستمرة حتى اليوم ، القاعدة الأولى هى إغراق إسرائيل بالمساعدات العسكرية والمالية ، والقاعدة الثانية هى مراقبة التسلح العربى ومنع الدول العربية من الحصول على أسلحة هجومية ، ( البيان الثلاثى الأمريكى – البريطانى – الفرنسى للعام 1950 ) ، هذه السياسة دفعت دولاً عربية ( مصر – سوريا – ليبيا – العراق – اليمن ) نحو الاتحاد السوفييتى ودول المنظومة الاشتراكية للحصول على الأسلحة ، مما فجر الحرب الباردة الأمريكية – السوفييتية فى الوطن العربى ، فكانت النتيجة أن الصهيونية المسيحية قدمت تفسيرا عصرياً (( ليأجوج ومأجوج )) الذين سيهاجمون اليهود فى دولة صهيون حسب النبوءة التوراتية . وقالت إن (( يأجوج ومأجوج )) هم الروس !! ولكن بعد التوافق الأمريكى السوفييتى الذى بدأ فى عهد الرئيسين ميخائيل جورباتشوف ورونالد ريجان ، والذى يتواصل فى عهد الرئيس جورباتشوف وجورج بوش ، متجسداً فى فتح أبواب الاتحاد السوفييتى أمام هجرة اليهود السوفييت إلى إسرائيل ( أكثر من مليون مهاجر خلال العقد القادم ) لابد من أن تبحث الصهيونية المسيحية عن قوم آخرين تمنحهم لقب (( يأجوج ومأجوج )) ! .. فمن سيكونون يا ترى ؟



الفصل الرابع
الصهيونية المسيحية والإســلام

إذا كان الفكر اليهودى قد استغل الظلام الذى ساد أروبا فى القرن الخامس عشر وتسلل إلى العقيدة المسيحية ، وإذا كان هذا التسلل قد أدى منذ القرن السادس عشر إلى وضع اليهود فى إطار من القداسة الدينية المسيحية ، وبالتالى إلى تعامل الكنيسة الجديدة ( البروتستنتية والتطهرية ) معهم كشعب ميزه الله على سائر الشعوب الأخرى ، وأنه ، أى الشعب اليهودى – يملك صكاً إلهيا بملكية الأرض المقدسة ، وأن عودته إلى فلسطين تحقق نبوءة توراتية تمهد للعودة الثانية للمسيح .

وإذا كان هذا الفكر اليهودى قد تمكن كذلك من ربط العقيدة الدينية المستحدثة بالمصالح الاستراتيجية للدول الأوربية ( بريطانيا وفرنسا ) \ن بل حاول التسلل أيضاً إلى الإسلام نفسه فى مواكبة تكاملية مع ما كانت تتعرض له المسيحية .

لم تلق محاولة التسلل إلى الإسلام اهتمامًا إسلاميًا مبكرًا لأسباب عديدة ، فالغاية من المحاولة لم تكن موجهة إلى المسلمين والعرب مباشرة ، بقدر ما كانت موجهة إلى الأوروبيين . والذين قاموا بتلك المحاولة هم من الفلاسفة واللاهوتيين والمستشرقين اليهود الأوربيين . لقد كتبوا الأفكار التى اختلقوها بالغات الأوروبية ( الإنجليزية والألمانية والفرنسية ) ، ولذلك بقيت هذه الأفكار بعيدة عن متناول المسلمين العرب حتى أواخر القرن التاسع عشر .

المحاولة أو المحاولات اليهودية – الأوروبية ، تناولت الإسلام كدين ، وتناولت العرب كمجتمع . ثم طرحت موضوع الدور والحضور اليهوديين فى كلا الأمرين .

بالنسبة للدين الإسلامى ، حاول الفكر اليهودى أن يقدم الإسلام وكأنه مجرد اقتباس عن اليهودية . حاول المستشرق اليهودى الألمانى إبراهام غايجر Abraham Geiger فى كتابه الذى أصدره فى العام 1833 تصوير النبى محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأن لا عمل له سوى الاقتباس عن اليهودية ، بما فى ذلك نظرية النبوة وفكرة الكتاب . وحاول غايجر أن يصور يهود الجزيرة العربية على أنهم المصدر الذى استقى منه الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأفكار .

وعلى هذا الخط نفسه صدر بعد مائة عام لمستشرق يهودى ألمانى آخر هو س . تورى C. Torrey كتاب آخر بعنوان : (( التأسيس اليهودى للإسلام )) ، The Jewish Foundation of Islam ، قدم من خلال ترديد مزاعم التأثير اليهودى على عقيدة التوحيد فى الإسلام ، نظرية حاول من خلالها أن يؤكد أهمية دور وحجم الوجود اليهودى فى الجزيرة العربية امتداداً حتى فلسطين .

حتى المؤسسات الإسلامية نسبها س غوتيان S. Goitein إلى اليهود فى كتابة (( اليهود والعرب )) وحاول أن يبادر من خلال (( وثائق الجنيزا )) نظرية ينسب فيها التنظيم الإدارى والمالى فى العصور الإسلامية إلى اليهود ، وقد أصدر من أجل ذلك كتاباً فى خمسة أجزاء ربط فيها بين الدين والاقتصاد والاجتماع فى المجمتع الإسلامى على قاعدة الفكر اليهودى .

هذه الدراسات اليهودية حاولت من جهة أولى أن تنكر المقومات الذاتية للحضارة الإسلامية العربية ، وحاولت من جهة ثانية أن تدعى استمرارية الوجود اليهودى فى العقيدة والمجتمع والاقتصاد والإدارة الإسلامية ، وأن تنفى بالتالى الغياب اليهودى عن المنطقة العربية تبريرًا لقرار العودة متمثلاً فى فكر الصهيونية المسيحية والصهيونية اليهودية معاً .

ذهب بعض المستشرقين اليهود أمثال مارك كوهن M.Cohen إلى حد الادعاء بأن اليهود أقاموا لأنفسهم دويلات داخل الدولة الإسلامية مع أهل الكتاب من اليهود والنصار ومن فتح أبواب الدولة الإسلامية أمام الكفاة منهم لتقليد المناصب التى يستحقونها ، نقطة ضعف فى بنية الدولة الإسلامية ، ونقطة استقواء لدى اليهود ، إلى حد الادعاء بأنهم أنشؤوا كيانات ذات حكم ذاتى ، ليس فى مصر وحدها ، بل حتى فى المغرب العربى أيضاً .

ظل المستشرقون الأوروبيون وخاصة اليهود منهم ينظرون للمجتمعات الأوروبية على أساس أنه لا نظام إداريا ، ولا نظام مالياً أو مصرفياً أو ضرائبياً ، ولا نظام زراعة ، ولا حتى عقيدة توحيد فى العالم العربى الإسلامى لو لا الوجود اليهودى .
هذا التنظير أخذ منحى جديداً فى العقد الماضى من خلال الادعاء بأن المجتمع العربى – الإسلامى يتناقض مع الديمقراطية والمساواة بين الناس ، وأن إسرائيل تشكل الجزيرة الديمقراطية والمساوة بين الناس ، وأن إسرائيل تمثل الجزيرة الديمراطية الوحيدة فى الشرق .

كانت المساهمات الفكرية اليهودية تصدر بتلازم تام من حيث المضمون ومن حيث التوقيت مع متطلبات تطور الحركة الصهيونية وتقدمها نحو أهدفها ، فعندما احتاجت هذه الحركة إلى تقديم صورة مختلفة عن المجتمع العربى تنظيمياً وإدارياً ، جاءت مساهمات المستشرقين لتوفر لها ذلك ، وعندما احتاجت هذه الحركة إلى تقديم صورة عن الوجود اليهةدى فى الوطن العربى للإيحاء بأن هذا الوجود مستمر بشرياً وحضارياً ، وأنه ليس طارئاً دخيلا على المنطقة ،تجاوب المستشرقين اليهود فى تقديم هذه المادة . ذلك أن الصورتين ، صورة التحلف العربى ، وصورة الحضور اليهودى ، تجسدان معاً وجهين لعملة الاستيطان اليهودى التى كانت الحركة الصهيونية بحاجة إلى طرحها للتداول العملى فى المجتمعات الأوروبية والأمريكية ، وخاصة فى الدوائر التى تصنع القرار وفى تلك التى تؤثر على صناعته .

تلاقت جهود عدد كبير من المستشرقين والفلاسفة واللاهوتيين اليهود فى إنجاز هذه العملية ، منهم جوتيان ، وجايجر ، وجولدزيهر ، وشراينر ، وبريلمان ، وماجنس ، وشلوسنغر ، وتورى وهرشيرع ، ومونك الذى أسس مدارس يهودية فى الإسكندرية فى عهد محمد على ، وكان فى عداد الوفد اليهودى الذى زار حاكم مصر فى العام 1840 وفاتحه بشأن تخصيص كيان ما لليهود .

وإذا كان بعض المفكرين العرب المحدثين قد سقط ضحية تضليل هذا الاستشراق اليهودى ، فإن الإسلام خلافاً لما حدث فى المسيحية ، استعصى على الاختراق واحتفظ بسلامة العقيدة وبنقاوتها .

غير أن الفكر اليهودى حقق نجاحا محدوداً جداً فى ميدان ، كما حقق نجاحاً واسعاً جداً فى ميدان آخر .
يتمثل النجاح المحدود جداً فى ظهور بعض الحركات الارتدادية عن الإسلام كالقاديانية والبهائية وغيرهما . استغل التزاوج بين التطلعات الصهيونية والمصالح الاستراتيجية لبريطانيا ( خصوصاً فى الهند وأفغانستان وإيران ) المشاعر الشعوبية أحيانا ، ومشاعر الإحباط أحياناً أخرى ليشجع على قيام حركات تفتت الإسلام وعزلها بعيداً عن القلب فى الوطن العربى ، أدى إلى انحسارها وتآكلها .

أما النجاح الواسع جداً فيتمثل فى القضاء على الخلافة الإسلامية رمز الوحدة وقاعدتها ، وفى بعث الشيفونية الطورانية فى تركيا على حساب الاندماج مع العالم الإسلامى .

الكتابات الأولى عن قومية تركية منفصلة عن الإسلام ( أى قبل الوصول إلى الأناضول ) وعن تجاوز المرحلة الإسلامية من التاريخ التركى ، هى كتابات يهودية فى الدرجة الأولى : دافيد لوملى ( يهودى ) وضع كتاباً عن قواعد اللغة التركية ، المستشرق فامبرى ( يهودى ) وضع كتاباً عن التاريخ القومى للأتراك ، أصبح أهم مصدر من مصادر الفكر القومى التركى ، ليون كوهن ( يهودى ) وضع كتاباً عن الأصول التركية حتى العام 1405 ، موسى كوهين ( يهودى ) وضع كتاباً عن الفكر التركى وعن الشخصية التركية المميزة ، يكن ألب ( يهودى ألمانى كان يعتقد أنه تركى مسلم ) وضع كتاباً عن (( الأتراك والجامعة التركية )) .

لعبت فرقة الدونمة دوراً رئيساً فى سحب خيوط القومية التركية من النسيج الإسلامى . فالفرقة التى نشأت أساسا على الإيمان بنظرية (( هامشيح )) ، أى المسيح اليهودى المنتظر أصبحت (( العنصر الرئيس لحركة جمعية الاتحاد والترقى )) ، وتولى أعضاء منها مناصب رسمية (وزير المال جاويد الدونمى ) وتوجيهية ( رئيس تحرير جريدة الوطن الناطقة بلسان الاتحاد والترقى حسين جاهد ) .

استطاع الفكر اليهودى المباشر والمتستر تحت العباءة التركية أن يزرع نظريات تقول بانتماء الأتراك إلى الجنس الآرى المتقدم على الجنس السامى ، وبأن الانحطاط التركى سببه الإسلام ، وأنه بالتالى لا خلاص للأتراك إلا بفك ارتباطهم بالإسلام .

أدى الأخذ بهذه النظريات إلى استبدال الإسلام بالقومية الطوراينة الأمر الذى فسح المجال أمام جملة من ردود الأفعال القومية فى سائر انحاء الامبراطورية العثمانية ، أدى بالنتيجة إلى تفسخ وحدتها وسهل عملية اقتسامها وإستلاب اطرافها .

الفصل الخامس
مؤسسات الصهيونية المسيحية

قبل قيام إسرائيل فى العام 1948 ، كانت أيديولوجية الصهيونية المسيحية تقوم على :

اعتبار اليهد شعب الله المختار God Favoured Nation .
اعتبار أن الله منح اليهود صكاً أبديا بالأرض المقدسة فى فلسطين .
العمل على تجميع اليهود فى فلسطين وإقامة وطن قومى يهودى تنفيذاً لمشيئة الله

وبعد قيام إسرائيل أصبحت أيديولوجية الصهيونية المسيحية تقوم على :

إعطاء كلمة إسرائيل معنى دينياً رمزياً وليس مجرد اسم دولة . والالتزام الأخلاقى Moral Commitment بدعم إسرائيل هو التزام دينى ثابت ودائم وليس مجرد التزام سياسى متغير ومتحرك وفقا لمقضيات لعبة الأمم .

اعتبار شرعية الدولة اليهودية مستمدة من التشريع الإلهى وبالتالى اعتبار قيام الدولة تحقيقا للنبوءات الدينية .


التشديد على أن أرض إسرائيل Eretz هى كل الأرض التى وعد الله بها إبراهيم وذريته ، وبالتالى فإن هذه الأرض لا تقف عند حدود التقسيم للعام 1949 ، ولا عند حدود العام 1956 ، أو حدود العام 1967 ، وإنها لا تشمل فقط الضفة الغربية ( يهوذا والسامرة ) وقطاع غزة ، ولكن تشمل كل الـأرض الموعودة من النيل إلى الفرات .

استمرار العمل بالشعار الذى يقول : إن الله يبارك إسرائيل ويلعن لاعنيها . وإنه يتعين على أساس ذلك تقديم كل أنواع الدعم والمساعدة المادية والمعنوية لإسرائيل للحصول على بركة الرب ، ومن خلال ذلك تلتزم كنائس الصهيونية المسيحية فى الولايات المتحدة بتجييش الرأى العام وبتوجيه القيادات لتأييد إسرائيل أيا كان القرار الذى تتخذه على أساس أن هذا القرار يترجم إدارة الله .

وعندما يتناقض القرار الإسرائيلى مع النظام الدولى ، ومع المواثيق والمعاهدات الدولية الأخرى ، فإن القرار الإسرائيلى هو الذى يجب إدارة الإنسان . وحيث تتناقض الإدارات فإن إدارة الله هى التى يجب أن تحترم وأن يخضع لها .

لا تزال الولايات المتحدة تجسد مركز استقطاب الحركات الصهيونية المسيحية المعاصرة . هذه الحركات تتجذر فى الكنيسة الإنجيلية الأمريكية وتمتد فروعها فى شتى شرائح المجتمع الأمريكى عبر الكنيسة والإعلام والجامعة معاً .

فى السادس من شباط – فيراير – 1985 ، ألقى بنجامين ناتانيا وهو سفير إسرائيل السابق لدى الأمم المتحدة خطابا أمام مؤتمر صهيونى مسيحى عقد فى واشنطن ، قال فيه : (( هناك شوق قديم فى تقاليدنا اليهودية للعودة إلى أرض إسرائيل . هذا الحلم الذى يراودنا منذ ألفى سنة تفجر من خلال المسيحيين الصهيونيين )) ... (( المسيحيون هم الذين عملوا على تحويل الأسطورة الجميلة إلى دولة يهودية )) ..
يوجد الآن أكثر من250 منظمة من المنظمات المسيحية الصهيونية ، أهمها :
المصرف الأمريكى المسيحى من أجل إسرائيل
The American Christian Trust for Israel
المهمة الأساسية المصرف البنك هى تمويل استملاك الأراضى العربية ، وتمويل بناء المستوطنات اليهودية ، وتمويل تهجير اليهود إلى إسرائيل . تدبر عمليات هذا المصرف السيدة بوبى هروماس Bopi Hromas ، زوجة الدكتور لسلى هروماس Leslie Hromas أحد كبار المسؤولين فى مؤسسة دفاعية فى كاليفورنيا . ويحول المصرف الأموال التى يجمعها عبر السفارة الإسرائيلية فى واشنطن أو عبر مصرف بتسدا الدولى فى ميريلاند International Bank in Bethesda- Maryland الذى أسسه رئيس المنظمة الصهيونية الأمريكية دونالد وولب Donald Wolpe وهو المصرف الوحيد فى الولايات المتحدة الذى له فرع فى إسرائيل .

مؤتمر القيادة الوطنية المسيحية من أجل إسرائيل The National Christian Leadership Conference for Israel
يترأس هذا المؤتمر فرانكلين ليتل Franklin H . Little أستاذ فى جامعة المعبد Temple فى بنسلفانيا ، وهو صاحب شعار يقول (( حتى تكون مسيحيا يجب أن تكون يهودياً )) .
من نشاطات هذه المنظمة نشر بيانات فى الصحف الأمريكية تأييداً لإسرائيل . من هذه البيانات ، بيان نشر فى صفحة كاملة من صحيفة واشنطن بوست Washington Post وصحيفة نيويورك تايمز N.Y. Times فى أثناء الاجتياح الإسرائيلى للبنان فى العام 1982 . جاء فى البيان : (( أن معارضى الاجتياح هم لا ساميون )) . و (( أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها وعن شعبها بالوسائل التى تراها مناسبة )) .
انبثقت عن هذه المنظمة جمعية (( المؤتمر الوطنى المسيحى )) The National Christian Congress ومهمتها التصدى لأى صفقة أسلحة تعقدها الولايات المتحدة مع أى دولة عربية أو إسلامية (( محافظة على أمن وسلامة إسرائيل )) .

الاتحاد المسيحى من أجل سلامة أمريكا
Christian United for American Security
ومهمتها ربط سلامة أمريكا بسلامة إسرائيل ، وتأكيد نظرية رضى اللهعن أمريكا من خلال حسن معاملة أمريكا لإسرائيل وتتولى هذه المنظمة استناداً إلى هذه التعاليم إعداد لوائح بأسماء الشخصيات البارزة فى المجتمع الأمريكى لتسجيل تواقيعها على بيانات التأييد لإسرائيل التى ترسل إلى البيت الأبيض أو إلى الكونجرس أو التى تنشر فى الصحف .

تاف الرعويات الإنجيلية TAV Evangelical Ministries
( تاف هى لفظة الحرف الأخير من الأبجدية العبرانية ) ، ومهمتها تجييش الرأى العام الأمريكى وراء إسرائيل من خلال المؤتمرات والمهرجانات والمنشورات والإعلانات فى الصحف ..
ومن هذه المنظمات أيضا منظمة (( الصوت المسيحى )) The Christian Voice ومركزها فى كاليفورنيا ، وتبلغ ميزانيتها السنوية 1.5 مليون دولار . ومنها أيضا منظمة (( الائتلاف الأمريكى )) من أجل القيمم التقليدية The American Coalition for Traditional Values ويترأسها فى سان دياجو San Diego القس والكاتب المعروف تيم لى هاى Tim Le Haye .

ومنها منظمة (( المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل )) Christian United for Israel وهى المنظمة التى تقدم الدعم المباشر إلى القوات المتعاملة مع إسرائيل فى الشريط المحتل من جنوب لبنان والتىتعرف باسم (( جيش لبنان الحر )) . وتصدر عن هذه المنظمة نشرة إخبارية شهرية ومجلة فصلية باسم (( ساعى القدس والنبوءات المختارة )) Jerusalem Courier and Prophecy Digest ويشرف عليها القس دافيد لويس David Lewis .

ومنها أيضاً منظمة (( جبل المعبد )) Temple Mount Foundation ، ومهمتها إعادة بناء هيكل سليمان فى القدس . ولذلك أقامت هذه المنظمة الأمريكية مركزها الرئيس فى مدينو القدس . وهى تتولى جمع الأموال اللازمة لامتلاك العقارات المجاورة لموع الهيكل وتمويل عمليات الحفر التى تجرى تحت المسجد الأقصى بحجة البحث عن أسس الهيكل المتهدم .

بترأس هذه المنظمة تيرى رازنهوفر Terry Risenhoover ، ةتنبثق عنها لجنة إنجيلية مهمتها جمع الأموال من أصحاب الملايين الأمريكيين . ويتولى الإشراف على هذه اللجنة ثلاثة من كبار الشخصيات المسيحية الصهيونية فى الولايات المتحدة هم تشاك كريجر Chuck Krieger وجيمس ديلوش James Deloach ورايزنهوفر نفسه .
لا تقف الحركة الصهيونية المسيحية عند حدود المنظمات الأمريكية وحدها . بل إنها تحاول أن تتوسع لتشمل دولاً عديدة أخرى ، إما من خلال الكنئس ، أو من خلال ما للولايات المتحدة من هيمنة وتأثير مادى ومعنوى على هذه الدول .

لعل أبرز ظاهرة توسع تلك التى تتمثل فى انتشار منظمة السفارة المسيحية الدولية فى القدس International Christian Embassy- Jerusalem . تكونت هذه المنظمة فى الثلاثين من سبتمبر – أيلول 1980 فى القسم الغربى من مدينة القدس رداً على قرار 13 دولة نقل سفاراتها من القدس إلى تل أبيب كمبادرة رفض لقرار الحكومة الإسرائيلية تهويد القدس الشرقية وتوحيدها مع القدس الغربية وإعلان المدينة الموحدة (( عاصمة أبدية لأسرائيل )) .

تضامناً مع إسرائيل تداعى أكثر من ألف رجل دين من رجالات الصهيونية المسيحية من كنائس فى 23 دولة وعقدوا مؤتمراً فى القدس برئاسة الدكتور دوجلاس يونج Douglas Young مدير المعهد الأمريكى لدراسات الأرض المقدسة . انتخب هذا المؤتمر صهيونياً مسيحياً متطرفاً هو جان فان دير هوفين Jan Van Der Hoeven وهو هولندى لرئاسة المنظمة التى اتفقوا على تأليفها .

مبرر وهدف تكوين المنظمة حدده بيانها الأول الذى جاء فيه : (( إن الله وحده هو الذى أنشأ هذه السفارة الدولية فى هذه الساعات الحرجة من أجل تحقيق راحة صهيون واستجابة حب جديد لإسرائيل )) .

يعتبر الذى عقدته المنظمة فى بال بسويسرا – والذى حضرته 589 شخصية قيادية من الحركة الصهيونية المسيحية من 27 دولة مختلفة – عنواناً لمراحلة جديدة من عمل الصهيونية المسيحية . فقد اختارات المنظمة مدينة بال بالذات ، واختارات القاعة نفسها التى عقد فيها المؤتمر الصهيونى الأول ، واختارت كذلك شهر آب – أغسطس بالذات بعد 88 سنة ، لتعقد مؤتمرها الدولى الأول فى العام 1985 . يقول البيان الذى صدر عن هذا لامؤتمر : (( نحن الوفود المجتمعين هنا ، من دول مختلفة ، وممثلى كنائس متنوعة ، فى نفس هذه القاعة الصغيرة والتى اجتمع فيها منذ 88 عاماً مضت الدكتور تيودور هرتزل ومعه وفود المؤتمر الصهيونى الأول والذى وضع اللبنة الأولى لإعادة ميلاد دولة إسرائيل ، جئنا معاً للصلاة ولإرضاء الرب ، ولكى نعبر عن ديننا الكبير وشغفنا العظيم بإسرائيل ( الشعب و الأرض والعقيدة ) ولكى نعبر عن التضامن معها ، وأننا ندرك اليوم وبعد اليوم المعاناة المريرة التى تعرض لها اليهود ، إنهم ما زالوا يواجهون قوى حاقدة ومدمرة مثل التى تعرضوا لها فى الماضى )) .

وإننا كمسيحيين ندرك أن الكنيسة أيضاً لم تنصف اليهود طوال تاريخ معاناتهم واضطهادهم . إننا نتوجد اليوم فى أوروبا بعد مرور أربعين عاماً على الاضطهاد لليهود – الهولوكست – لكى نعبر عن تأييدنا لإسرائيل ، ونتحدث عن الدولة التى تم إعداد ميلادها هنا فى بال ، إننا نقول : (( أبداً .. ولا رجعة للقوى التى يمكن أن تتسبب فى استرجاع أو تكرار هولوكست جديدة ضد الشعب اليهودى )) .

كما ورد فى مبادىء الإعلان أيضا : إننا نهنىء دولة إسرائيل ومواطنيها على الإنجازات العديدة التى تحققت فى فترة وجيزة تقل عن أربعة عقود ، إننا نحضكم على أن تكونوا أقوياء فى الله وعلى أن تستلهموا قدرته فى مواجهة ما يعترضكم من عقبات ، وإننا نناشدكم بحب أن تحاولوا تحقيق العديد مما تصبون إليه . وعليكم أن تدركوا أن يد الله وحدها هى التى ساعدتكم على استعادة الأرض وجمعتكم من منفاكم طبقاً للنبوءات التى وردت فى النصوص المقدسة . وأخيراً فإننا ندعو كل مسيحى أن يشجع ويدعم أصدقاء اليهود فى كل خطواتهم الحرة التى يستلهمونها من الله )) .

أما القرارات الأربعة عشر التى صدرت عن المؤتمر فهى :
عدم تقديم تنازلات من الغرب إلى الاتحاد السوفيتى ما دام لا يسمح بهجرة اليهود إلى إسرائيل مباشرة . كما نطالب إسرائيل بدعوة كل الأسر اليهودية فى الاتحاد السوفيتى للعودة إلى بيتها فى إسرائيل .


تشجيع إسرائيل ومواطنيها على المشاركة فى كل الهيئات والمؤسسات الدولية الحكومية منها وغير الحكومية . ونطالب وفودنا الرسمية وغير الرسمية بدعم المشاركة الإسرائيلية فى كل الاجتماعات أو الانسحاب منها إذا ما رفضت عضوية إسرائيل فيها .

على كل الأمم الاعتراف بإسرائيل ، وإقامة علاقات دبلوماسية كاملة معها . ونخص بالذكر حكومة الفاتيكان ، وإسبانيا ، والاتحاد السوفيتى والكتلة الشرقية ، فضلاً عن الدول العربية ودول العالم الثالث .

يعلن المؤتمر بأن يهودا والسامرة هما بالحق التورانى والقانون الدولى ، وبحكم الواقع ، جزؤ من إسرائيل . وعلى إسرائيل أن تعلن ضمها على هذا الأساس . ونطالب مجتمعاتنا وكنائسنا بـ (( التوأمة )) مع مثيلاتها فى يهوذا والسامرة والمساهمة فى تأسيس حدائق عامة وغابات فيها .

نطالب كل الأمم بالاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موجدة لإسرائيل وبنقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس .

نطالب الدول الصديقة لإسرائيل ، بوقف تزويد أية دولة فى حالة حرب مع إسرائيل بالأسلحة ، بما فى ذلك مصر التى وقعت اتفاقية مع إسرائيل ، ما لم تلتزم بنصوص اتفاقية إنشاء علاقات طبيعية مع إسرائيل ، بما فى ذلك العلاقات التجارية والسياحية .

نطالب كل الحكومات بنبذ منظمة التحرير الفلسطينية ، وعدم تقديم أى عون أو مساعدة لها أو الاعتراف بها ، أو بالمنظمات التابعة لها باعتبار أنها منظمات إرهابية تهدف إلى تدمير إسرائيل وشعبها ( وتأتى هذه المطالبة تنفيذًا لما ورد فى التوراة حول أن الله يبارك من يبارك اليهود ويلعن من يلعنهم ) .

إدانة كل أشكال معادة السامية ANTI – SEMITISM وتشمل اللاسامية عداء اليهودية والصهيونية وإسرائيل .

الدعوة لتذكر كل الفظائع التى ارتكبتها ما تسمى الحضارة المسيحية ، وما يسمون المسيحيين ، ضد اليهود على مر العصور . وبخاصة المذابح الجماعية فى الحرب العالمية الثانية ، والالتزام بالعمل على عدم تكرارها مرة ثانية .

العمل على توطين اللاجئين العرب الذين تركوا إسرائيل عام 1948 ، ( وبناء على دعوات قادة العرب ، والهادفة إلى إخلاء أرض المعارك من المدنيين العرب لتدمير إسرائيل وشعبها ) فى البلدان التى رحلوا إليها . كما يطالب المؤتمر بالعدالة لليهود الذين فقدوا أسرهم وأملاكهم وبيوتهم خلال عمليات قمعهم فى البلدان العربية ، وأجبروا على طلب اللجوء ألى إسرائيل ودول أخرى .

مساعدة إسرائيل اقتصادياً ، وذلك بإنشاء صندوق استثمار دولى برأس مال قدره مئة مليون دولار ، للاستثمار فى تطوير إسرائيل . وبخاصة فى مجال السياحة والصناعات التقنية المتقدمة .
كما يعلن المؤتمر عن التزام أعضائه بالعمل على تشجيع استيراد وشراء البضائع الإسرائيلية ، والخدمات الإسرائيلية فى أوطانهم ، وكذلك تشجيع الاستثمار الخاص فى إسرائيل .

مطالبة كل المسيحيين ، وكل الأمم بعدم الخضوع لأنظمة المقاطعة العربية لإسرائيل .

دعوة مجلس الكنائس العالمى فى جنيف إلى الاعتراف بالصلة التوراتية التى تربط بين الشعب اليهودى وأرضه الموعودة ، وكذلك بالبعد التوراتى والنبوئى لدولة إسرائيل .


يصلى أعضاء المؤتمر ( وينظرون بلهفة ) لليوم الذى تصبح فيه القدس مركزًا لاهتمام الإنسانية ، حينما تصير مملكة الرب حقيقة واقعة .

صدرت عن هذه المنظمة عدة صحف جديدة تروج لأفكارها ومبادئها . منها المجلة الشهرية MINISTRIES والمجلة السنوية THE REVIEW . وتتولى مجلة ثالثة نشر دراسات التقاريير التى تصدر عن المنظمة هى CHARISMA ذات الانتشار الواسع داخل الولايات المتحدة وخارجها .

أقامت المنظمة فروعاً لها حتى الآن فى اكثر م أربعين دولة وأهم مراكزها ( خارج الولايات المتحدة ) فى هولندة وجنوب إفريقيا وأستراليا ونيوزيلندة ، أما فى الولايات المتحدة فقد أقامت 22 مركزا حتى الآن فى 22 ولاية ، أما مقرها الرئيس فهو فى مدينة مونتريت MONTREAT فى ولاية كارولينا CAROLINE ويقضى برنامجها بأن يكون لها مركز فى كل ولاية . يقوم على رأس كل مركز زجل دين مسيحى صهيونى برتبة قنصل . مهمة هذه المراكز هى تنظيم التجمعات والمظاهرات المؤيدة لإسرائيل ، وجمع التبرعات والمساعدات ، وبيع السندات لدعم إسرائيل . وتجاوباً مع الضغط الذى مارسته هذه المنطقة صدر عن مجلس الكونجرس الأمريكى ( مجلس الشيوخ ومجلس النواب ) بيان بالعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ، وبدعوة الإدارة الأمريكية لتعديل موقفها من هذا الموضوع والاعتراف بالقدس موحدة عاصمة أبدية لإسرائيل )) .



الفصل السادس
الصهيونية المسيحية والقانون الدولى

لابد أولاً من تعريف سريع للقانون الدولى . إنه مجموعة من المبادىء والأعراف والأنظمة تعترف بها دول ذات سيادة وتتعهد باحترامها والالتزام بها فى علاقاتها المتبيادلة .

طبعاً هناك تعاريف عديدة أخرى ، ولكن وكما يقول مثل صينى : على المرء أن يحتفظ لنفسه ، بعدة تعاريف لموضوع واحد حتى لا يفاجأ باعتماد أكثر هذه التعاريف وضوحاً .

من هذه التعاريف أن القانون الدولى هو علم الحقوق القائمة بين الأمم والدول ، وأنه علم الحقوق القائمة بين الأمم والدول ، وأنه علم الالتزامات التى تتفق مع هذه الحقوق .

ومن هذه التعارف أيضاً أنه مجموعة من المبادىء والأنظمة التى تعترف بها الدول المتحضرة لتنظيم علاقتها المتبادلة .

ومنها كذلك أنه مجموعة الأنظمة التى تلتزم بها الدول المتحضرة كما يلتزم المواطن صاحب الضمير الحى بإطاعة قانون بلاده .

هناك مدرستان أساسيتان حول علاقة الدول بالقانون الدولى .

الأولى : مدرسة الازدواجيين ، وهى مدرسة تقول باختلاف القانون الدولى عن القانون الوطنى من حيث إن الأول ينشأ عن أسرة الدول وعن معاهدات وعقود قائمة بينها . أما الثانى فإنه ينشأ عن عادات تقوم فى أرض الدولة وعن تشريعات تضعها سلطاتها المختصة .

الثانية : هى مدرسة الاندماجين ، أو الوحدويين ، وهى مدرسة تذهب إلى حد القول : إن الحكومات الوطنية تستمد سلطاتها المشروعة من القانون الدولى إن هذاالقانون يمكن أن يصل إلى الحد من السيادة الوطنية المطلقة .

أيا تكن التعاريف ، وأيا تكن المدارس الفقهية القانونية ، فإن ثمة جامعاً مشتركاً بيتها جميعاً وهو أن المجتمع الدولى يحكمه قانون دولى ، وأن على دول العام أن تلتزم بهذا القانون ، وأن كل من يخرقه ، يتعرض للإدانة والعقوبة الدوليتنين، كما يدان ويعاقب الخارج على القانون .

المفهوم الصهيونى
لابد ثانياً من تعريف الصهيونية . بوجهيها ، الصهيونية اليهودية ، والصهيونية المسيحية ، وكما بينا سابقا ، تقوم الصهيونية على ثوابت ثلاثة :

إن اليهود هم شعب الله المختار .
إن الله وعد اليهود وملكهم أرض الميعاد من النيل إلى الفرات .
إن ظهور المسيح مرتبط بقيام صهيون وبتجميع اليهود فيها حتى يظهر المسيح فيهم ( كما تقول الصهيونية المسيحية ) أو حتى يظهر المسيح منهم ، ( كما تقول المسيحية اليهودية ) .

هذه الثوابت الدينية الثلاثة تعنى أمراً واحداً . وهو أن القانون الذى يطبق على اليهود ، هو قانون إلهى . وأنه حيث يتعارض القانون الإلهى مع القانون الدولى ، فإن قانون الله هو الذى يجب أن ينفذ لأنه يعكس إرادة الله ومشيئته . هذه الإرادة محددة بتمليك اليهود أرض فلسطين ، وبحقهم غير المشروط فى الاستيطان فيها ، وبتعامل شعوب العالم معهم على أساس أنهم أمة الله التى تسمو فوق كل قوانين الأمم وأنظمتها . وأن كل عمل يقومون به هو وحى من الله لابد من تقبله واحترامه .

فى ضوء هذين التعريفين للقانون الدولى ، وللحركة الصهيونية ، نقف أمام المفاصل الأساسية التى تقاطعت فيها مسيرة الحركة مع القانون الدولى لنبين كيف أدى ذلك إلى التأثير على تبلور صورة جغرافية العالم الإسلامى كما نعرفها اليوم .

ثم نقف بعد ذلك أمام المفاصل الأساسية التى تتقاطع فيها هذه المسيرة المتواصلة للحركة الصهيونية من خلال إسرائيل ، مع القانون الدولى المعاصر ، لنبين كيف يمكن أن يؤدى ذلك إلى التأثير على مستقبل جغرافية العالم الإسلامى إذا استمرات الأمور على ما هى عليه اليوم

المذكرة التى وجهها فى العام 1649 من هولندة عالما اللاهوت ( التطهريات ) الانجليزيان جوانا وألينزر كارترايت hoanna and Elenezer Cartaright إلى الحكومة البريطانية والتى طالبا فيها – كما أشرنا سابقاً – (( بأن يكون للشعب الانجليزى ولشعب الأرض المنخفضة شرف حمل أولاد وبنات إسرائيل علة متن سفنهم إلى الأرض التى وعد الله بها أجدادهم : إبراهيم وإسحق ويعقوب ومنحهم إياها إرثاً أبدياً )) ، هذه المذكرة تجسد بذرة الشر الأولى التى نمت وترعرعت على حساب القانون الدولى ، ونفذت على مدى الأجيال بدماء ودموع المسلمين والمسيحيين العرب من أهل فلسطين والوطن العربى .

أنبتت هذه البذرة شعار أنطونى كوبر – اللورد شافستبرى – فى العام 1739(( وطن بلا شعب لشعب بلا وطن )) وهو الشعار الذى تلقفه مهندس السياسة البريطانية فى مطلع القرن التاسع عشر جلادستون ليزاوج بين الهدف التوراتى بتهويد فلسطين وبين المصالح الاستراتيجية لبريطانيا فى الوطن العربى . وقد تولى وزير الخارجية اللورد بالمرستون تخطيط السياسة الخارجية البريطانية على أساس هذا التزاوج .

قبل قيام اسرائيل :
وتنفيذاً لذلك ، مارست بريطانيا منذ ذلك الوقت الضغط على السلطان العثمانى لفتح أبواب فلسطين أما هجرة اليهودالروس الذين تعرضوا للاضطهاد بعد حادث اغتيال القيصر ألكسندر الثانى . كان لبريطانيا أهداف متعددة :
قطع الطريق أمام هجرة اليهود الروس إلى بريطانيا .
تجميع اليهود فى فلسطين تحقيقا للنبوءة التوراتية .
تكوين أقلية يهودية فى فلسطين تطلب الحماية البريطانية . بتنفيذ هذه الأهداف رسمت بريطانيا الخطوط الأولى للجغرافيا القائمة حالياً فى الوطن العربى . تم ذلك كله على حساب حق الفلسطينيين فى دولة ، وعلى حساب الحق العربى فى وطن موحد ، وبالتالى على حساب القانون الدولى .

تعهدت بريطانيا للحركة الصهيونية بتحويل ( أوغنده ) إلى وطن قومى لليهود . إلا أن المؤتمر الرابع للحركة الصهيونية الذى عقد فى العام 1903 أصر على فلسطين ، فوافقت بريطانيا .
من أجل ذلك وضعت فلسطين فى برنامج التقسيم الذى وضعه مارك سايكس وجورج بيكو ( وزيرا خارجيتى بريطانيا وفرنسا ) فى العام 1916 اتفقت الدول الكبرى ، الثىث فى ذلك الوقت ، بريطانيا وفرنسا وروسيا على اقتسام الإمبراطورية العثمانية . نص الاتفاق على أن تحصل روسيا على القسطنطينية وعلى ممرات البوسفور وعلى قسم من شرق الأناضول ، كما نص على أن تحصل فرنسا على سوريا والموصل وعلى جزء من جنوب الأناضول بما فيه الإسكندرون . أما بريطانيا فتحصل على بقية العراق إضافة إلى مصر . الصراع الفرنسى – البريطانى على فلسطين أدى إلى اتفاقهما على وضعها تحت إدارة دولية .

ضربت الثورة البلشفية فى روسيا فى العام 1917 ميزان التفاهم الدولى ، فجمد تنفيذ الاتفاق ، ثم أعيد النظر فيه على أساس استبعاد روسيا واقتسام حصتها بين فرنسا وبريطانيا وكشفت روسيا عن سر اتفاق سايكس – بيكو وعرف به العرب للمرة الأولى من خلال البيان الروسى .

كان الاتفاق يتناقض مع الوعود البريطانية للعرب ، والتى نصت عليها رسائل مكماهون إلى الشريف حسين ، زكانت آخر رسالة من مكماهون إلى فيصل الأول بتاريخ تشرين الأول – أكتوبر 1915 ، أصدر بلفور وزير خارجية بريطايا بياياً توضيحياً حاول من خلاله إقناع العرب بأن بريطانيا ملتزمة بمضمون تعهداتها بموجب رسائل مكماهون ، وأن اتفاق سايكس بيكو لا يتناقض مع هذه التعهدات ، ولكن فى الوقت الذى كان بلفور يردد ذلك كانت الجغرافية الجديدة لاتفاق سايكس – بيكو تثبت فى المحاضر الدولية .

مهد اتفاق سايكس – بيكو لإصدار وعد بلفور فى العام 1917 ، وعندما اتفقت الدول الكبرى فى مؤتمر سان ريمو فى العام 1920 على الانتداب البريطانى على فلسطين ، أصبح الوعد جزءاً من هذا الانتداب ، وعندها أقرت عصبة الأمم فى العام 1922 هذا الاتفاق رسمياً ، وتكون العصبة بهذا قد احتالت على القانون الدولى بموافقتها المسبقة على مضمون الوعد الذى هو جزء من الانتداب .

بعد مؤتمر فرساى فى العام 1919 ، توجه وفد عربى إلى لندن لمفاوضة الحكومة البريطانية حول فلسطين ، غير أن الوفد أحيل إلى الدائرة الصهيونية فى وزارة المستعمرات ، مما أوحى ( للوفد ) بأن بريطانيا هى بصدد تسليم فلسطين إلى الحركة الصهيونية .

وفى فلسطين نفسها ، بدأت السلطات البريطانية تسرح الموظفين العرب وتعين مكانهم موظفين يهوداً .

فى هذة الأثناء أعلن المؤتمر الصهيونيى فى مدينة هيغ فى هولندا – خلافا حتى لوعد بلفور – أن هدف الحركة الصهيونية ليس الحصول على وطن يهودى بل على دولة يهودية ، وقال وايزمان : (( كما أن أمريكا أمريكية ، وفرنسا فرنسية ، فإن اليهود يريدون أن يجعلوا من فلسطين يهودية )) .تنفيذا لذلك ، اتفقت فرنسا وبريطانيا فى مؤتمر سان ريمو 1920 ، على وضع فلسطين تحت الانتداب البريطانى تمهيداً لتنفيذ الوعد لليهود ، تجاهل نص الانتداب تماماً أكثرية ال 92 بالمئة من سكان فلسطين العرب ، وأشار 14 مرة إلى اليهود وإلى المؤسسات اليهودية . أما العرب ، فلم يشر النص أليهم إلا فى صيغة (( المجموعات غير اليهودية )) الموجودة فى فلسطين .

عندما اعترض العرب على مضمون وعد بلفور ، فوضت بريطانيا أحد مسؤوليها فيما كان يعرف باسم المكتب العربى فى القاهرة ، وهو القومندان هوجارث commander hogarth امتصاص رد الفعل العربى أيضا ، فأصدر بيانه الذى قال فيه : (( إن أى مستوطنة يهودية فى فلسطين لن تقام إلا فى حدود مراعاة الحريات السياسية والاقتصادية للسكان العرب )) .

ولكن فى هذا الوقت بالذات ، كان توقيع جغرافية التوطين اليهودى فى فلسطين يتم فى لندن بين وايزمن وبلفور على قاعدتى وعد بلفور واتفاق سايكس – بيكو .

لم تحترم أى من المواثيق والمعاهدات أو الاتفاقات الدولية مع العرب ، من رسائل مكماهون إلى الحسين وفيصل ، إلى توضيحات بلفور وهوجارث ، إلى الإعلان البريطانى فى حزيران يونيو – 1918 ، والإعلان البريطانى – الفرنسى المشترك فى تشريين الثانى – نوفمبر – 1918 ، إلى اتفاق فيصل – كليمنصو فى تشرين الثانى – نوفمبر – 1919 ، كل هذه الالتزامات لم تحقق سوى هدف واحد ، وهو كبح جماح الغضب العربى ، وامتصاص رد الفعل ، ورسم الجغرافية الجديدة فى الوطن العربى وفق مقتضيات خلق الكيان الصهيونى ، وعلى قاعدة ضمان نمو هذا الكيان وتوسعه على حساب الكيانات العربية المركبة من حوله .

خلافاً لنص ولروح مبادىء ولسون ال 14 بشأن حقوق الشعوب فى تقرير مصيرها ، تبنى الرئيس الأمريكى وودرو ولسون وعد بلفور فى مذكرة وجهها فى 31/8/1918 إلى الحاخام ستيفن واير .

هذا التبنى والالتزام بنتفيذ وعد بلفور ، أصبح من الثوابت القانون الدولى وحق الشعوب فى تقرير مصيرها ، وتمثل هذا الالتزام بالضغط الأمريكى ليس فقط على السلطنة العثمانية للسماح بتوطين اليهود ( مهمات السفير الأمريكى فى اسطنبول ليو والاس ) إنما تمثل أيضاً بالضغط على بريطانيا لحملها على التراجع عن مضمون الورقة البيضاء م 1939 التى تحدد عدد المهاجرين اليهود ومساحة الأراضى التى يحق لهم تملكها فى فلسطين .

كان تدخل الحركة الصهيونية بنطلق من الادعاء بأنه لا يحق لأى دولة أن تتدخل ضد إرادة الله فى تحديد عدد اليهود الذين يسمح لهم بالعودة إلى فلسطين ، أو فى تحديد مساحة تملكهم فى أرض الميعاد ، فالله يريد عودة كل اليهود إلى فلسطين ، والله منحهم مقبولاً من أى قوة على الأرض أن تتحدى إرادة الله أو أن تعرقل تنفيذها ..

وهكذا خلافاً للقانون الدولى ولسياسة الولايات المتحدة تجاه الأقليات فى الإمبراطورية العثمانية ( البلغار ، واليونان ، والظارمن ، العرب ) فإن الموقف الأمريكى من اليهود كان مختلفاً ومميزاً . كانت الولايات المتحدة نصبت نفسها مدافعاً عن مبدأ حق تقرير مصير الشعوب ، ولكن تبنيها للمطالب اليهودية فى فلسطين حيث كان العرب يكونون الأكثرية ( 86 فى المئة ) انتهك هذا المبدأ تماماً .

مرحلة ما بعد قيام إسرائيل :
أرسى الاعتراف الأمريكى بالكيان الإسرائيلى قاعدتين لسياسة أمريكية مستمرة حتى اليو ، القاعدة الأولى هى إغراق إسرائيل بالمساعدات العسكرية والمالية ، والقاعدة الثانية هى مراقبة التسلح العربى ومنع الدول العربية من الحصول على أسلحة متطورة . ( البيان الثلاثى الأمريكى – البريطانى – الفرنسى للعام 1950 ) .

انتهكت إسرائيل قرار الأمم المتحدة للعام 1947 كما انتهكت حتى وعد بلفور للعام 1917 ، فالأمم المتحدة قسمت فلسطين إلى دولتين تقوم عليهما معًا إسرائيل اليوم . أعطى القرار بنصه الجائر ثلث السكان ( اليهود ) 56 بالمئة من الأرض ، ثم إن الأمم المتحدة التى أعطت الفلسطينيين حق تقرير المصير بموجب قرار التقسيم نفسه ، تقف مكتوفة الأيدى أمام رفض إسرائيل الاعتراف حتى بوجود الشعب الفلسطينى . بل إن الأمم المتحدة لم تحرك ساكناً عندما بادرت إسرائيل فور قيامها ، إلى ضم 28 بالمئة من الأراضى العربية فوق ما نص عليه قرار التقسيم .

عندما أبلغت بريطانيا الأمم المتحدة أنها ستنهى من جانب واحد الانتداب على فلسطين عند منتصف ليل 14 – 15 من آيار – مايو – 1949 ، ألفت المنظمة الدولية لجنة خاصة للتحقيق ( Special Committee on Palestine(U.N.S.C.O.P) قررت اللجنة التى قاطعها العرب تقسيم فلسطين إلى سبعة جيوب ، ثلاثة للعرب ، وأربعة لليهود ، ورفعت تقريرها إلى الأمم المتحدة فى تشرين الثانى – نوفمبر – من العام 1947 . الضغط الأمريكى – خاصة على دول أمريكا اللاتينية – والحماس السوفييتى ، أديا إلى إقرار التقسيم فى 29 من الشهر نفسه ، بأكثرية 33 ضد 13 . على أساس حيثيات هذا القرار اعترفت الأمم المتحدة بإسرائيل وقبلت عضويتها .
أى أن الاعتراف الدولى كان مشروطاً بقرار التقسيم ، هذا القرار تطالب دول عربية بتنفيذه ولكن الرد الإسرائيلى هو أنه قرار تجاوزه الزمن !..

بعد انسحاب القوات البريطانية فى 15 من آيار – مايو – 1948 م دخلت مجموعات من الجيوش العربية إلى فلسطين ووقعت (( حرب الأسلحة الفاسدة )) الشهيرة . وعندما تم وقف إطلاق النار ، وعقدت مفاوضات الهدنة فى رودس بإشراف الأمم المتحدة ، بادرت إسرائيل وبتواطؤ بريطانى إلى غزو جنوب النقب واحتلت العقبة . فرسمت بهذا الاحتلال خطاً جديداً فى جغرافية التوسع الصهيونى على حساب جغرافية الأمة العربية . ذلك أن العقبة تمثل رأس جسر ليس فقط إلى خليج العقبة ، بل إلى البحر الأحمر ، وامتداداً إلى المحيط الهندى .

استعمل الإسرائيليون الإرهاب عندما ثار الفلسطينيون ضد الاغتصاب الإسرائيلى ، وأجبروا فى العام 1948 ، 750 ألفاً من الفلسطينيين على الهجرة . قامت منظمة الهاجاناه Haganah نواة الجيش الإسرائيلى مع منظمات إرهابية أخرى ، أرغون Irgun، وشترن Stern بتهجير العرب من حيفا ويافا واللد والرملة وبئر السبع وبيسان . قاد موشى دايان وحدات مؤلفة من الجيش إلى اللد حيث ارتكبت مجزرة أدت إلى تهجير بقية السكان البالغ عددهم ثلاثين ألفاً . وشهدت دير ياسين فى نيسان – إبريل – 1948 ، أبشع جرائم الإرهاب والقتل الجماعى على يد منظمة شترن ، حيث قتل 250 شيخاً وامرأة وطفلاً ، وألقيت جثثهم فى الآبار .
ومع ذلك فإن الدول القيمة على القانون الدولى وعلى رأسها الولايات المتحدة تعتبر الفلسطينيين مجرد مجموعات إرهابية ، وترفض الاعتراف بحقهم فى تقرير المصير وإقامة دولتهم ، بل ترفض حتى الاعتراف بمنظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى .

التحدى المستمر للقانون الدولى
منذ قيام إسرائيل فى عام 1948 م وهى تنتهك بصورة مستمرة ومتمادية القانون الدولى ، وترسم من خلال ذلك خطوطاً جديدة فى الجغرافيا السياسية للوطن العربى . تتركز هذه الانتهاكات أساساً على خطوط الحياة التى ترسم حدود هذه الجغرافيا وتحددها .

هذه الخطوط هى :
أولا : مجارى الأنهار .
ثانيا : الممرات المائية .

أولاً : بالنسبة لأنهار :

ويمكن تسجيل العناوين الآتية :
فى عام 1953 م بدأت إسرائيل أولى محاولاتها لتحويل مجرى نهر الأردن .
فى عام 1964 م منعت إسرائيل تحويل روافد نهر الأردن فى لنبان وسوريا .
فى عام 1978 م احتلت إسرائيل مجرى نهر الليطانى فى جنوب لبنان ، وهى تجر مياهه منذ ذلك الوقت إلى الأرض المحتلة .
تمنع إسرائيل بناء سد الوحدة السورى – الأردنى على نهر الأردن ما لم تكن شريكة ثالثة فى المشروع .
فى عام 1979 م طلبت إسرائيل من مصر فى كامب ديفيد تحويل جزء من نهر النيل إلى النقب المحتل فى إسرائيل .
تحاول إسرائيل الاتفاق مع أثيوبيا لإقامة سدود على نهر النيل داخل الهضبة الإثيوبية للضغط على مصر .
كانت إسرائيل عاملاً أساسيا فى القرار الأمريكى الذى اتخذ فى عام 1956 م بالتراجع عن تمويل بناء السد العالى فى مصر مما اضطرها إلى طلب المساعدة السوفياتية لبناء السد .
تلعب إسرائيل دوراً مؤثراً وفعالاً فى عدد من الدول الغربية والمصارف الدولية لتمويل مشاريع السدود التركية على نهر الفرات حتى يكون لإسرائيل دالة على تركيا تمكنها من أن تمسك بمجرى النهر فتحاً أو غلقاً أو تقنيناً للضغط على سوريا والعراق .
صادرت إسرائيل جميع الآبار الارتوازية داخل الضفة الغربية ومنعت العرب من حفر آبار جديدة ، وركبت عدادات على الآبار العربية القائمة لتقنين استخراج المياه الصالحة للشرب والزراعة تضييقاً على العرب وتسهيلاً لعمليات الاستيطان اليهودى .

أدى مشروع السد العالى على النيل إلى العدوان الثلاثى على مصر فى عام 1956 م ، وأدى مشروع تحويل روافد نهر الأردن فى عام 1964 م إلى حرب 1967 م ، وأدى مشروع استثمار نهر الليطانى فى جنوب شرق لبنان إلى اجتياح لبنان أولاً فى عام 1978م ، ثم فى عام 1982.

إن كل عنوان من هذه العناوين يمكن أن يؤلف بحثاً قائماً بذاته ، ولكن لابد من القول : إن المتغيرات التى تفرضها إسرائيل سواء بالقوة العسكرية ، أو بقوة التواطؤ الدولى ، تغير من جغرافية الوطن العربى سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وسكانياً على حد سواء وكلما تراجعت الجغرافية العربية خطوة إلى الوراء ، تقدمت الجغرافية الصهيونية خطوتين إلى الأمام ، خطوة ملء فراغ التراجع العربى ، وخطوة التحفز استعداداً للمرحلة التى تليها .

ثانيا : بالنسبة للممرات المائية :
تمتد جغرافية الوطن العربى من مضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسى ، إلى باب المندب بين البحر الأحمر والمحيط الهندى . وتشمل هذه الجغرافية قناة السويس ( بين البحرين الأحمر والمتوسط ) ومضائق تيران فى العقبة ، كما تشمل مضيق هرمز الذى يمثل عنق الزجاجة بين الخليج العربى وبحر العرب .

تصوروا لو كانت هناك استراتيجية عربية واحدة فى هذه المنطقة ، ولو كانت قبضة عربية واحدة متمكنة حول هذه الممرات المائية !! . أول تغيير فى هذه الجغرافية حققته إسرائيل فى كانون الثانى يناير – من العام 1949 م فى العقبة عندما احتلت جنوب النقب وأقامت فى موقع أيلة مرفأ إيلات الاستراتيجى الإسرائيلى . ثم بعد العدوان الثلاثى على مصر فى العام 1956 ، ركزت أقدامها فى هذه المنطقة تحت مظلة قوات الأمم المتحدة إلى أن تمكنت بعد حرب عام 1967م من الحصول على حق الملاحة عبر البحر الأحمر إلى شرق إفريقيا ، وإلى آسيا كلها .

التعاون الإسرائيلى الإثيوبى فى عهد هيلاسيلاسى ثم فى العهد الحالى ، يدفع بالجغرافية العربية فى البحر الأحمر إلى الوراء ، حتى إن باب المندب الذى كان أداة ضغط عربية على الملاحة الإسرائيلية ، بدأ يفقد هذه الميزة من خلال الوجود العسكرى الإسرائيلى فى بعض جزر البحر التى أجرتها إثيوبيا إسرائيل ومنها جزيرة دهلك التى تقيم فيها إسرائيل قاعدة بحرية – جوية متقدمة . بعد حرب 1973م ، أصحبت إسرائيل تتمتع بحق الملاحة فى قناة السويس . وبرغم أن مضيق جبل طارق لم يستعمل أبداً حتى كأداة تهديد ضد الملاحة الإسرائيلية ، فإن إسرائيل بممارستها سياسة اليد الطويلة وصلت إلى تونس عندما ضربت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ، ووصلت كذلك إلى الجزائر عندما نسفت فى مرفإ عنابة زوارق فلسطينية للتدريب .

أما شرقاً فإن إسرائيل على لسان إرييل شارون تعتبر أن باكستان كدولة إسلامية قادرة على انتاج سلاح نووى ، تقع فى إطار استراتيجية الأمن الإسرائيلى . وبالتالى فإن استنزاف الباكستان من الداخل ( إثارة الفتن والاضطرابات المذهبية والإثنية ) أو من الخارج ( تأجيج صراعتها مع الهند ) يصبح هدفاً من أهداف استراتيجية الأمن الإسرائيلى ، وهكذا فإن الجغرافية الإسلامية من باكستان حتى المغرب ترسم معالمها متطلبات الأمن الإستراتيجى لإسرائيلى سواء تم ذلك بصورة مباشرة عبر العدوان ، أو التهديد بالعدوان ، أو بصورة غير مباشرة عبر الولايات المتحدة ودول غربية أخرى .

تغطية الانتهاكات الاسرائيلية للتعاون الدولى
هكذا فى كل مرة يصطدم فيها التصرف الإسرائيلى بالقانون الدولى ، وفى كل مرة يشعر المجتمع الدولى بشىء من الخجل بسبب انتهاك سيادة الدول ، أو حقوق الإنسان ، تنبرى الولايات المتحدة لاستعمال النقض – الفيتو – فى مجلس الأمن ضد أى مشروع ينص على فرض عقوبة على إسرائيل أو إدانة سلوكها ، مما يجعلها وهى المتمردة على كل المواثيق والمعاهدات والقوانين والأعراف الدولية فوق أى إدانى أو لوم .

عندما أحرق إسرائيلى المسجد الأقصى فى آب – أغسطس – من عام 1969م ، استعملت الولايات المتحدة الفيتو ضد إدانة مجلس الأمن لهذه الجريمة المنكرة ، وعندما قتل إسرائيل بدم بارد ثمانية من العمال العرب فى ضاحية تل أبيب فى آيار – مايو – من عام 1990 ، استعملت الولايات المتحدة الفيتو ضد إدانة هذه الجريمة . وعندما وقعت جريمة المسجد الأقصى حيث قتل 21 مصلياً وجرح أكثر من 150 فى اعتداء على المسجد ماركت الولايات المتحدة النقض ضد ادانة هذه الجريمة .

فإسرائيل فى نظر ذاتها ، وفى نظر الصهيونية المسيحية مالكة القرار وصانعته فى الولايات المتحدة ، هى فوق العقاب وفوق الإدانة ، إنها فوق القانون الدولى لأنها فوق حسابات البشر .

إن لإسرائيل موقعاً ، بل مواقع فى الصراعات داخل الدول العربية ( لبنان – جنوب السودان – الأكراد وغيرهم من الأقليات الدينية ، أو الإثنية ) ، وفى الصراعات بين الدول العربية ( الصحراء الغربية ) وفى الصراعات بين الدول العربية ودول الجوار غير العربى ( شط العرب مع إيران ، نهر الفرات مع تركيا ، إريتريا مع إثيوبيا ، حوض نهر السنغال بين السنغال وموريتانيا ) .

ولإسرائيل موقع فى تخفيض سقف العلاقات العربية – الأوروبية ، وفى تعطيل نمو العلاقات العربية مع بقية العالم الثالث ، ولها موقع فى إخراج الأمة العربية دائرة الوفاق الدولى الجديد حتى إن الدول العربية تصور فى العالم وكأنها المتضرر الوحيد من هذا الوفاق .

إذا ضيقت دولة ما أبواب هجرة اليهود منها ، أو عبرها إلى إسرائيل ، تنهال عليها وصمة اللاسامية وتتهم بالتالى بخرق القانون الدولى ، ولكن إسرائيل تمنع عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم ، وتفرض قيوداً مشددة على إقامة وعلى تنقل الذين بقوا منهم فى الأرض المحتلة ، مشابهة لقوانين التميز العنصرى فى جنوب إفريقيا ، وتحرمهم من حق التملك ، ومع ذلك فإن احداً لا يتهم إسرائيل بخرق القانون الدولى .

إن قانون العودة الإسرائيلى الذى يعتبر كل يهودى إسرائيلياً أيا كانت الجنسية التى يحملها هو فى حد ذاته خرق للقانون الدولى ولقوانين الدول التى يوجد فيها يهود ، بما فى ذلك المادة الأولى من الدستور الأمريكى نفسه ..

ولكن أحداً من هولاء لا يعترض ، ولا يجرؤ على الاعتراض ، بل إن التوافق الدولى الجديد على تهجير اليهود إلى إسرائيل وخاصة من الاتحاد السوفييتى ومن بقية دول أوروبا الشرقية ، يفرض واقعياً

إن أخشى ما نخشاه هو أنه إذا لم تصح الأمة العربية على واقعها ، فإن كل المنطقة من الوطن العربى التى تقع بين النيل والفران معرضة لأن تصبح فى يوم أو فى آخر ضفة غربية جديدة ، أو غزة جديدة ، ربما مع انتفاضة ، وربما بدونها ، وسوف تتعرض المناطق الأخرى من الوطن العربى للتدجين وللاستيعاب فى إطار الهيمنة الصهيونية .

فى التاسع من حزيران – يونيو – 1099 حاصر الصليبيون القدس ، وفى الخامس عشر من الشهر التالى ، تموز – يوليو – اقتحموها من بوابتها الشمالية . يقول ابن الأثير إن 70 ألفا من الشيوخ والنساء والأطفال قتلوا فى المسجد الأقصى وحده . وكان الصليبيون قد قتلوا مئة ألف آخريين وهم فى طريقهم إلى المدينة المقدسة .
مع ذلك ، واستناداً إلى ابن الأثير أيضاً لم تحرك بغداد ( عاصمة الخلافة ) إصبعاً . ولم يحرك الوزير الفاطمى الفاضل أسطوله إلى المرافىء الإسلامية المحاصرة . مرت أربعون سنة قبل أن يعيد المسلمون توحيد صفوفهم وتجميع قواهم .. ليخوضوا سلسلة من الحروب استمرت نحو مئتى سنة إلى أن تمكنوا من إعادة تحرير القدس بعد معركة حطين . وعندما احتل الانجليز القدس فى الحرب العالمية الأولى ، ودخلتها قوات الجنرال اللنبى General Allenby فى 10 من كانون الثانى – يناير – 1917 ، دقت أجراس الكنائس فى كل أوروبا ( بما فى ذلك ألمانيا .

لقد مر 42 سنة على قيام إسرائيل ، فمتى توحد الأمة العربية صفوفها ومتى تعيد تجميع قواها ؟ .. متى تقوم حطين الثانية وتتحرر القدس ؟ ..



الفصل السابع
فى مواجهة الصهيونية المسيحية

على الرغم من قوة تأثير وفعالية الصهيونية المسيحية فى الولايات المتحدة ، فإن لها معارضين من داخل الكنيسة الإنجلية نفسها ، ومن خارجها .

أولاً : من داخل الكنيسة الأنجلية :
أهم قاعدة لهذه المعارضة الإنجيلية تتمثل فى المجلس الوطنى لكنائس المسيح National Council of the Churches of Christ ، ويضم هذا المجلس 34 طائفة يبلغ عدد أتباعها نحو الأربعين مليون شخص . وتصدر عن هذا المجلس مجلة شهرية تدعى (( القرن المسيحيى )) Christian Century كما تصدر عنه مجلة شهرية أخرى تدعى (( المسيحية والأزمات )) The Christianity and Crisis .
يستقطب المجلس ومجلتاه الإنجيلين الليبراليين الذين يرفضون التفسير الحرفى للكتاب المقدس ، كما يرفضون الصهيونية اللاهوتية فى الكنيسة . ومن أبرز المواقف السياسية التى اتخذها المجلس الوطنى لكنائس المسيح ، إعلانه فى عام 1979 أن من حق منظمة التحرير الفلسطينية الاشتراك فى أى مفاوضات للسلام باعتبارها الممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى .

يعبر عن هذه المواقف والآراء دوريات أخرى أبرزها ثلاث :
أ‌. مجلة المقيمون Sojourners وتصدر فى واشنطن العاصمة .
ب‌. مجلة الطرف الآخر The other Side وتصدر فى فيلادلفيا .
ت‌. مجلة المصلح The Reformer وتصدر فى ميتشجان . والمجلات الثلاث تنتقد باستمرار وبشدة الصهيونية المسيحية ، وتدعو إلى احترام حقوق الشعب الفلسطينى ، وخاصة حقه فى تقرير مصيره .
ومن الكنائس الإنجيلية المتعاطفة مع هذا الخط ، ولو ينسب متفاوتة ، الكنيسة المشيخية Presbyterians ، والكنيسة المنهجية Methodists ، والكنيسة المعمدانية Baptists ، والكنيسة الأسقفية Episcopalianas ، وهذا يعنى أن ثمة طرقاً مفتوحة ، وجسوراً قائمة للعمل من أجل كبح جماح الصهيونية المسيحية ، وعدم الاستسلام لنفوذها المدمر .

ثانيا : من خارج الكنيسة الإنجيلية :
ظهر أول موقف للكنيسة الكاثوليكية من الحركة الصهيونية فى آيار – مايو – من العام 1897 عشية المؤتمر الصهيونى الأول ، جاء فى هذا الموقف :
(( لقد مر ألف وثمانمئة وسبعة وعشرون سنة على تحقيق نبوءة المسيح ، بأن القدس سوف تدمر .. أما فيما يتعلق بإعادة بناء القدس بحيث تصبح مركزاً لدولة إسرائيلية يعاد تكوينها ، فيتحتم علينا أن نضيف أن ذلك يتناقض مع نبؤات المسيح نفسه الذى أخبرنا مسبقاً بأن القدس سوف تدوسها العامة ( جنتيل ) حتى نهاية زمن العامة ( لوقا 21/ 24 ) ، أى حتى نهاية الزمن )) .

وبعد سبع سنوات على إعلان هذا الموقف ، وجه البابا بيوس العاشر Pope Pius X رسالة جوابية إلى ثيودور هرتزل Theodor Hertzl مؤسس الحركة الصهيونية قال فيها :

(( لا نستطيع أبداً أن نتعاطف مع هذه الحركة – الصهيونية – نحن لا نستطيع أن نمنع اليهود من التوجه إلى القدس ، ولكننا لا يمكن أبداً أن نقره . إننى بصفتى قيما على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك بشكل آخر . لم يعترف اليهود بسيدنا ، ولذلك لا نستطيع أن نعترف بالشعب اليهودى ، وبالتالى ، فإذا جئتم إلى فلسطين وأقام شعبكم هناك ، فإننا سنكون مستعدين كنائس ورهباناً لتعميدكم جميعاً )) .

بعد صدور وعد بلفور ، فى عام 1917 ، أوفدت الحركة الصهيونية أحد أعضائها ، وهو الروسى ناحوم سوكولوف Nahum Sokolov لمقابلة البابا بنديكت الخامس عشر Pope Benedict XV .

فى هذا اللقاء الذى تم فى العاشر من آيار – مايو – 1917 ، قال البابا : (( لا لسيادة اليهود على الأرض المقدسة )) .

دافعت الصحافة الكاثوليكية فى أوروبا وفى الولايات المتحدة نفسها عن موقف البابا . حتى إن المجلة الكاثوليكية The American Catholic Quarterly Review نشرت فى عددها الصادر فى نيسان – أبريل – 1918 ، مقالاً بعنوان :
(( موقف المسيح من التطلعات السياسية – الدينية لليهود )) قالت فيه :

(( بما أن الانتقام هو صفة اليهود المميزة ، فإن التدمير الكامل لأعدائهم هو من أعظم إنجازات تطلعاتهم القومية . ويرى كثير من اليهود فى إشباع مشاعرهم الانتقامية جزءاً من عظمة مستقبلهم السعيد )) .

تلقف البابا التضامن الإسلامى – المسيحى العربى فى فلسطين ضد وعد بلفور ليؤكد رفض السيادة اليهودية على الأرض المقدسة ففى كانون الأول – ديسمبر – 1920 ، تألقت هيئة إسلامية – مسيحية Muslim – Christian Association in Palestine لمطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر فى وعد بلفور . كما أن المؤتمر العربى الثالث فى حيفا طالب باستبدال الانتداب البريطانى بحكومة عربية .
احتلت أحداث الانتفاضة الفلسطنية فى ربيع 1921 الصفحات الأولى فى الصحف الكاثوليكية فى العالم . وفى 14 من حزيران – يونيو – 1921 أعلن البابا : (( إن الوضع فى فلسطين لم يتحسن . بل إنه ازداد سوءاً من خلال التنظيمات المدنية الجديدة التى استهدفت عملياً على الأقل ، ولو من غير قصد أصحابها ، إقصاء المسيحية عن موقعها السايق ووضع اليهود فى مكانها . ولذلك فإننا نهيب بحرارة بجميع المسيحيين بمن فيهم الحكومات غير الكاثوليكية أن تحث عصبة الأمم على إعادة النظر فى الانتداب البريطانى على فلسطين )) .

وفى 15 من آيار – مايو – 1922 وجه الفاتيكان مذكرة رسمية إلى عصبة الأمم تنفيذ بشدة إقامة وطن قومى لليهود فى فلسطين ، وجاء فى المذكرة التى وضعها الكاردينال كاسبارى Cardinal Caspari :
(( إن الحبر الأعظم لا يعارض فى أن يتمتع اليهود فى فلسطين بالحقوق المدينة أسوة بغيرهم من أبناء الجنسيات والمعتقدات الأخرى ، ولكنه لا يمكن أن يوافق على منح اليهود امتيازات على غيرهم من السكان )) .

تجاوباً مع هذا الموقف تحركت الدبلوماسية الفرنسية والإطالية والبرازيلية ( وكلها دول كاثوليكية ) فى اتجاه تأخير إقرار الانتداب البريطانى على فلسطين فى عصبة الأمم إلى أن يعاد النظر فى وعد بلفور .

فى عملية اسشتيعابية لهذه التحركات ، قام ونيسون تشرشل Winston Churchill وكان وزيراً للمستعمرات بحركته الالتفافية ، فأصدر الورقة البيضاء ، التى استهدفت إقناع خصوم الصهيونية بفرض قيود على المستقبل السياسى للمستوطنين اليهود فى فلسطين دون إعادة النظر فى نص وعد بلفور أو فى مضمونه . وفى هذا الإطار أيضا ، جاءت توضيحات القومندون هوغارث من المكتب العربى فى القاهرة Commander Hogarth بأن (( أى مستوطنة يهودية فى فلسطين لن تقام إلا فى حدود مراعاة الحريات السياسية والاقتصادية للسكان العرب )) .

عزز حركة تشرشل الموقف الذى اتخذه الكونجرس الأمريكى بمجلسيه الشيوخ والنواب بتأييد وعد بلفور بمنح اليهود وطناً قومياً (( دون إلحاق الأذى بالحقوق الدينية للمسيحيين أو غيرهم من المجموعات غير اليهودية )) .

هذان الموقفان البريطانى ( الإنجليكانى ) ، والأمريكى ( البروتستنتى ) أديا معاً إلى هزيمة موقف الفاتيكان ( الكاثوليكى ) .

برغم ذلك ، وبرغم انشغال البابوية بالنعكاسات السلبية على الكنيسة الكاثوليكية فى الدول الشيوعية ، فإن الفاتيكان لم يتراجع عن معارضة تهويد فلسطين خلال الثلاثينات من القرن العشرين ففى تموز – يوليو –من العام 1937 ، وفى أعقاب الثورة الفسطينية التى نشبت فى عام 1936 ، ألفت بريطانيا لجنة للتحقيق Peel Commission . أوصت اللجنة بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية مع إبقاء الأماكن الدينية فى القدس وبيت لحم تحت إشراف الانتداب البريطانى . عارض العرب المسلمون والمسيحون توصيات اللجنة . وعارضها الفاتيكان أيضاً . ففى مذكرة وجهها إلى الحكومة البريطانية فى السادس من آب – أغسطس – من ذلك العام ، عارض الحبر الأعظم تقسيم فلسطين ، وعارض بصورة أخص وضع المناطق المقدسة مثل بحيرة طبريا والناصرة ضمن الجزء المخصص للدولة اليهودية . وأعرب الحبر الأعظم عن قلقه الشديد من نتائج مثل هذا التقسيم لفلسطين على المجموعات المسيحية .

بنتيجة الثورة الفلسطينية وبنتيجة هذه المعارضة الفاتيكانية وما رافقها من توتر دولى ، تراجعت الحكومة البريطانية عن مشروع التقسيم . ثم أصدرت فى عام 1939 الورقة البيضاء التى حددت بموجبها عدد اليهود الذين يسمح لهم بالهجرة سنوياً إلى فلسطين ومساحة الأراضى التى يسمح لهم بتملكها .

عكست الصحف الأمريكية الكاثوليكية ( ساين Sign وتابليت Tablet الحملة الفاتيكانية ضد التقسيم وركزت على (( أن فلسطين ليست ولن تكون وطناً قومياً لليهود )) .

ظل هذا الموقف من الثوابت الفاتيكانية حتى إلى ما بعد تصويت الأمم المتنحدة على قبول عضوية إسرائيل فى المنظمة الدولية ، ففى 22 من حزيران – يونيو – من العام 1943 ، ورداً على بيان المنظمات الصهيونية الذى صدر فى نيويورك ( بيان بلطيمور Biltmore ) فى آيار – مايو – 1942 ، وجه المبعوث الفاتيكانى إلى الولايات المتحدة الأسقف أملتو تشيكونيانى Amleto G . Cicogani مذكرة إلى الحكومة الأمريكية جدد فيها نداءات بنديكت الخامس عشر Pope Benedict XV بمعارضة إنشاء دولة يهودية فىلا فلسطين ، وضمن المذكرة صورة عن مذكرة الكاردينال غسبارى Cardinal Gaspariإلى عصبة الأمم فى 4 من حزيران – يونيو – 1922 .

وقد جاء فى مذكرة مذكرة تشيكونيانى إلى الإدارة الأمريكية :
(( إذا كانت اقامة وطن يهودى امرا مرغوبا فيه ، فلن يكون من العسير إيجاد مكان مناسب أكثر من فلسطين . أن مشاكل دولية جديدة سوف تترتب على زيادة عدد السكان اليهود هناك وسيتصدى كاثوليك العالم لهذا الأمر )) .

غير أن الصهيونية المسيحية كانت أقدر على انتزاع موقف من الكونغرس (( يدعو فيه – الكونغرس – الإدارة الأمريكية الى بذل جهودها والى اتخاذ كل الإجراءات اللازمة لفتح أبواب فلسطين أمام اليهود وافساح المجال أمامهم لاستعمارها بحيث يتمكن الشعب اليهودى من إعادة بناء فلسطين كدولة يهودية ديمقراطية حرة .

أوفد الفاتيكان فى العام 1944 الى الولايات المتحدة المونسينيور توماس ماكماهون Mons . Thomas J. Mcmahon ليحذر من خطر خضوع الغرب إلى المطالب الصهيونية على المجموعات المسيحية فى الشرق . وأكد ماكماهون خلال ذلك أن المسيحيين فى العالم يطالبون بصوت واحد (( أن تحافظ أرض المسيح على قداستها وحرمتها )) ، وقال أنه بما أن الإسلام لا يقدر على طرد المسيح من فلسطين ، فان دولة يهودية سوف تفعل ذلك بالتأكيد )) .

من أجل ذلك اقترح ماكماهون تدويل كل فلسطين مع السيطرة المسيحية عليها .
وقبل اعتراف الأمم المتحدة بإسرائيل باسبوعين ، وجه البابا بيوس الثانى عشر Pope Piuse Xll رسالة رعوية فى الأول من أيار – مايو – 1948 . قال فيها :

(( فى الوقت الحاضر هناك قضية أخرى تحزننا وتدمى قلوبنا . أننا بذلك قضية الأماكن المقدسة فى فلسطين التى تعرضت منذ وقت طويل لاحداث محزنة والتى تؤدى يوميا الى عمليات قتل وتدمير ، مع ذلك فإذا كان هناك جزء من العالم عزيز على ضمير كل إنسان واع ومتحضر ، فإن هذا الجزء هو فلسطين .. )) .
ثم دعا المؤمنين إلى تخصيص الصلاة فى شهر أيار – مايو – (( لتسوية قضية فلسطين على أساس المساواة حتى يسود السلام والتفاهم )) .

تحتل الكنسية الكاثوليكية ذات النفوذ داخل الولايات المتحدة موقعا اماميا فى التصدى للصهيونية المسيحية . فالفاتيكان الذى لم يعترف حتى اليوم بإسرائيل اعترافا قانونيا De Jure ، يعارض أهداف الحركة الصهيونية اليهودية ، ويعارض هجرة اليهود إلى فلسطين ، رفض البابا بيوس العاشر الذى استقبل اب الحركة الصهيونية اليهودية ثيودور هرتزل فى 26/1/1904 ، من حيث المبدأ أقامة وطن يهودى فى فلسطين . وكان البابا غريغورى الثالث عشر قد أصدر حكم الإدانة ضد اليهود فى العام 1581 .
ولم يرفع هذ الحكم إلا مؤخرا .

لم يقم على أساس هذه المواقف الواضحة تحالف إسلامى مع الفاتيكان ضد الصهيونية المسيحية . طرحت فكرة هذا التحالف مجلة أمريكا America التى تصدر عن الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية ، فى عام 1950 وذلك على قاعدة أن يكون التحالف موجهاً ضد الشيوعية . سارعت إسرائيل فطرحت نفسها حليفاً للولايات المتحدة ، وتسللت من خلال العداء للشيوعية حتى إلى قلب الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية فى عهد الكردينال سبيلمان Spelman، فى ذلك الوقت كانت دول عربية تشترى السلاح مضطرة من دول شيوعية ( الاتحاد السوفيتى وتشيكو سلوفاكيا ) فاستغلت الصهيونية المسيحية هذا الأمر وصورت الإسلام وكأنه حليف للشيوعية ..
وصورت إسرائيل وكأنها خندق أمامى ضد الشيوعية فى الشرق الأوسط .

وعندما وصل إلى البيت الابيض الرئيس جون كيندى ، أول رئيس كاثوليكى فى التاريخ الأمريكى ، كان إلى جانبه الأسقف كاشنغ Cushing الذى كان مشبعاً بالعداء للشيوعية ، فوجد الأسقف أن إسرائيل ، وليس الإسلام ، هو الحليف الطبيعى للولايات المتحدة ضد الشيوعية ، ونتيجة لجهوده التى انطلقت من هذا الاعتقاد ، أعطت الكاثوليكية الأمريكية ، الشرعية اللاهوتية لإسرائيل .

كرت السبحة بعد ذلك فقامت منظمات مسيحية كاثوليكية تدعو إلى تغيير مواقف الفاتيكان الاهوتية من مبدأ قيام دولة يهودية ، ومن مبدأ عودة اليهود إلى فلسطين مثل منظمة الدراسات اليهودية المسيحية Christian Studies – Institute of Judeo فى جامعة سيتون هول Seton Hall ، ومنظمة مكتب الفاتيكان للعلاقات الكاثوليكية – اليهودية Vatican Office of Catholic – Jewish Relations .
مع ذلك فإن القاعدة المسيحية الكاثوليكية الأمريكية لا تزال محافظة على مبادئها اللاهوتية ، ولا تزال متمسكة بالثوابت الفاتيكانية ، وتعكس منظمة الرهبان الأمريكيين American Bishops Conference ومنظمة مؤتمر الرفاه الوطنى الكاثوليكى National Catholic welfare Conference ومنظمة الهيئة الكاثوليكية للرفاه فى الشرق الأدنى Cathlic Near East Welfare Association مدى تأييد هذه المنظمات لقيام إسرائيل وهى إذ تطالب الفاتيكان بالاعتراف بها كدولة ، فإنها – خلافاً للمنظمات الإنجيلية ذات العقيدة الصهيونية المسيحية – لاتنكر حقوق الشعب الفلسطينى ، بل تدعو إلى الاعتراف أيضاً بهذه الحقوق واحترامها .

هذا يعنى أن المجال مفتوح لعمل اسلامى – كاثوليكى مع الفاتيكان مباشرة ، ومع الكنيسة الكاثوليكية الأمريكية من أجل بلورة جوامع مشتركة ضد الصهيونية المسيحية وأهدافها فى فلسطين ، يؤكد إمكان هذا العمل وقائع الاجتماع الذى عقده الكاردينال كوك Cook فى بيروت مع عدد من أعضاء مجلس النواب اللبنانى ، فقد توجه الكاردينال إلى الأعضاء المسيحيين منتقداً بشدة الاتصال المسيحى اللبنانى مع إسرائيل ، وقال لهم : (( إن الولايات المتحدة أكبر دولة فى العالم ، لم تتمكن من التعامل مع إسرائيل على قاعدة الأخذ والعطاء ، فإسرائيل تأخذ ولا تعطى )) . وحذرهم ن أن الاتصال مع إسرائيل يمكن أن يكون خطأ ، ولكن إذا تكرر أو تواصل فإنه يصبح جريمة .

أما الكنيسة الأرثوذكسية فإنها تتخذ موقفاً مناهضاً للصهيونية المسيحية على قاعدة الدفاع عن العقيدة المسيحية فى الدرجة الأولى ، يعكس هذا الموقف البيان الذى أصدره (( مجلس كنائس الشرق الأوسط )) عن الحركات الإنجيلية الغربية الجديدة حيال الشرق الأوسط )) والذى أكد فيه على )) أن التعاظم المفاجىء فى نشاط الحركات الانجيلية الغربية وعددها ، وفى نشاط المراسلين العاملين فى الشرق الأوسط ، هو مسألة تهم كنائس المنطقة ومجلس كنائس الشرق الأوسط . ففيما نجهد لاستعادة وحدتنا فى المسيح ، تعترينا مخاوف من أن بعض هذه المجموعات تحدث أثراً انقسامياً ، فبعضها لا يعترف للكنائس فى الشرق الأوسط بتاريخها وشهادتها ورسالتها الخاصة ، وبعضها الآخر يصر على (( زرع )) رؤية لاهوتية غربية على ثقافتنا . بل أن اختلاط المفاهيم أحدث قلقا ، وبخاصة بين الإنجليين والأسقفيين من أعضاء مجموعة كنائس المجلس ، الذين نجحوا فى أداء شهادة أصلية وملائمة ثقافياص )) .

ويرى المجلس فى تقريره فى (( حركة المرسلين فى القرن التاسع عشر كانت تحفزها رغبة قوية فى (( تصدير )) الثقافة والقيم الغربية إلى الشرق الأوسط ، وفى بعض الحالات بلغ الأمر أن جعلت المسيحية والتبشير بالإنجيل والحضارة ، مرادفة للحضارة الأوروبية – الأمريكية ، وبعضهم كان يؤمن أنه لم توجد فى الشرق الأوسط كنيسة (( حقيقية )) حتى كادوا ينكرون أن المسيحية والتوراة جاءتهم من الشرق الأوسط ، ويؤمنون بأن الإرساليات الغربية هى التى أتت إلى الشرق الأوسط بهما ، وعرف بعضهم أن فى الشرق الأوسط كنائس ، لكنهم آمنوا أنها ليست (( مسيحية )) كفاية .
(( وفيما يجنح الكثير من المجموعات ( الإنجيلية ) الجديدة جنوحاً قوياً إلى تكرار هذه الأخطاء ، لابد من أن نضيف أن بعض هذه الحركات تتميز بسمات جديدة وفريدة تنذر بنسف الشهادة المسيحية ، لا فى الشرق الأوسط فقط ، بل فى مواطن هذه الحركات أيضاً ، وهذا يلقى على كاهل كنائس تلك البلاد المسؤوليات معينة ، بخاصة فى الولايات المتحدة حيث نشأت هذه الحركات .

وردا على البيان صدر عن القيادة المسيحية الصهيونية الدولية فى مؤتمر بال – سويسرا 1985 ، قال بيان مجلس كنائس الشرق الأوسط : (( لما كنا نعى المسؤوليات الملقاة على عواتقنا حيال الطوائف المسيحية والرأى العام العالمى ، فإننا نؤكد أن لهذا الاجتماع صفة سياسية مفضوحة على الرغم من الإشارات الدينية الكثيرة ، إننا ندين استغلال التوراة واستثمار المشاعر الدينية فى محاولة لإضفاء صبغة قدسية على إنشاء دولة ، ولدمغ سياسة إحدى الحكومات بدمغة شرعية .

ولا حاجة إلى القول إن أى جماعة لا تستطيع التحدث نيابة عن مسيحيى الشرق الأوسط إلا كنائس هذه المنطقة ، ولما كان مؤتمر بال قد حاول ذلك ، فإنه يتعين علينا أن نرفض علناً مقرراته وتوصياته .
إننا نعاود إعلان الالتزام بالعدالة والسلام فى الشرق الأوسط فى العالم ، ونعتبر التزامنا هذا هو إعراب عن إخلاصنا لإنجيل يسوع المسيح ، وعن اهتمامنا الأكيد بالمتألمين والمحرومين من حقوقهم الأساسية )) .

وفى موقف واضح وعلنى ضد الصهيونية المسيحية ، صدر عن السيد غبريال حبيب الأمين العام للجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط بيان آخر ، أدان فيه (( سوء استخدام الكتاب المقدس وإثارة المشاعرة فى محاولة لتبرير خلق دولة ما – إسرائيل – ولتشريع سياسات حكومة ما – الحكومة الإسرائيلية )) .

أرفق هذا الموقف المبدئى بدراسة لاهوتية – تاريخية تسفه الصهيونية المسيحية وتؤكد على اعتبارها خطراً على المسيحية ، وتدعو الدراسة : (( كنائس الشرق الأوسط إلى تذكير المسيحيين فى العالم باستمرار إلى أنهم يرفضون الأيديولوجية والأهداف السياسية للاتجاه الصهيونى المسيحيى )) ، كما تدعو القيادات الكنسية إلى إصدار البيانات التى تندد بهذا الاتجاه وإلى توعية مستمرة ودائمة فى إصار الثقافة الكنسية .

فى الواقع (( ليس للمسيحية أى علاقة بهذه الخزعبلات ( نظرية هرمجيدون ) وذلك بالرغم من أنها – المسيحية – تعرضت للإغراء مراراً حتى تعرف عن نفسها على أساس هذه أو تلك من الخزعبلات )) .

(( إن التاريخ هو أشد تعقيداً ، والحياة البشرية والمجتمع الإنسانى هما أكثر تنوعاً ، وهذا التنوع هو أثمن من أن يختصر فى خطة شاملة واحدة . ومهما كان معنى الإيمان بالمسيح ، فإنه لا يعنى تهميش وتحقير تاريخ الإنسانية غير اليهودى وغير المسيحى )).

إن التفاهم الإسلامى – المسيحى لكبح جماح الصهيونية المسيحية داخل الولايات المتحدة وخارجها ، فوق أنه ممكن ، ومتوفر ، فإنه سيكون شديد الفعالية ، ذلك لأن الكنيسة الكاثوليكية – خلافاً للبروتستنتية – هى كنيسة مركزية موحدة ، ويلتزم أبناؤها بفكرها اللاهوتى التزاماً شديداً ، ثم إنها – الكاثوليكية – غير معنية على الإطلاق بأيديولوجية الكنيسة البروتستنتية التى تعلم أبناءها أن الله يتعامل مع الأمم حسب تعامل هذه الأمم مع إسرائيل ، وأن الوقوف إلى جانب إسرائيل هو مدخل للحصول على رضا الله وبركته ، وأن معاداة إسرائيل هى معادة الله ، كما أن الكنيسة الكاثوليكية غير معنية بالأيديولوجية اليهودية للبروتستنتية التى تزعم أن اليهود هم شعب الله المختار ، وأن منح اليهود وعداً أيدياً بفلسطين .

ومؤتمرات الحوار الإسلامى – المسيحى التى شارك فيها وشجعها الفاتيكان ودول ومؤسسات إسلامية متعددة ، لم تتصد لهذه القضية الأساسية ، ولم تشكل فرق عمل لوضع منهجية لعمل مشترك ينطلق من ثوابت إيمانية ومن قناعات مشتركة تجاه خطر واحد إن لم نقل تجاه عدو واحد .

إن الكنيسة الأرثوذكية والكنيسة الكاثوليكية العربيتين ، وخاصة فى لبنان ، تتمتعان بموقع يمكنهما من دفع الحوار الإسلامى – المسيحى فى هذا الاتجاه ، غير أن إثارة الاضطرابات الطائفية فى لبنان ، ودور أسرائيل فى هذه الإثارة ، يستهدف فى الدرجة الأولى طعن مصداقية الكنيستين ورجالهما أمام المسلمين وبالتالى تعطيل قيامهما بهذا الدور

إن المسلمين فى تصديهم للصهيونية بوجهيها اليهودى والمسيحى يحتالون إلى التحالف مع الكنيسة التى تعتبر هذه الصهيونية معادية لها وخطراً عليها ، ومن مستلزمات هذا التحالف تعزير التفاهم الإسلامى المسيحى والقفز من فوق الفتن الطائفية التى تنفجر مرة فى لبنان ، ومرة ثانية فى مصر .. ومرة ثالثة فى السودان .

إن الإدانة الجماعية التى تصدر عن مسلمين ضد الكنيسة ، أو عن مسيحيين ضد الإسلام فوق أنها إدانة ظالمة وخاطئة بالمطلق ، تعطل سبل تفاهمهما وتقطع الطريق أمام تحالفهما ، وكلما ازدادت الهوة اتساعاً بين المسيحية اللاصهيونية والمسلمين ، تقدمت الصهيونية المسيحية خطوات إلى الأمام نحو أهدافها على حساب الإسلام والمسيحية معاً .

لقد أدى التحالف بين دول إسلامية وعربية مع الكتلة الشيوعية فى الخمسينيات من هذا القرن إلى إضرام النار فى حقل التفاهم الإسلامى – المسيحى الجاف .

لعبت الخلفية الاستعمارية لدول أوروبا الغربية ، والخلفية اليهودية للولايات المتحدة ، الدور الأساسى فى دفع هذه الدول العربية والإسلامية إلى أحضان الكرملين ، رغم العداء للشيوعية كعقيدة .

وظفت الصهيونية اليهودية ، والصهيونية المسيحية هذه الأمر لتوسيع الهوة بين العرب والغرب ، وبين الإسلام والمسيحية ، وقبل أن تتكشف خطوط الفصل بين المسيحية من جهة ، والصهيونية المسيحية من جهة ثانية ، كانت احكام الإدانة الجماعية المتسرعة قد عطلت لغة الحوار والتفاهم على قواعد العقائد والمصالح المشتركة مع الوقت أصبحت الأدانات المتبادلة قوالب لعلاقات سيئة ، ولم تتمكن مؤتمرات الحوار الإسلامى – المسيحى أن تفعل الكثير لتحطيم هذه القوالب ومن ثم لدفع العلاقات نحو آفاق التعاون الرحب والمفتوح أمامها .

كان للفتنة فى لبنان آثار مدمرة على المحاولات المتواصلة التى جرت فى الثمانيات فى روما وأثينا ومدريد وقبرص ، وحتى فى الولايات المتحدة نفسها ، فالمثال اللبنانى الراقى على التعايش بين المسلمين والمسيحيين ، تحول بفعل التدخل والتحريض الإسرائيليين إلى وحش مخيف ، وما لم يدرك المسلمون والمسيحيون داخل لبنان وخارجه ، أن ما حدث فى لبنان هو جزء من الصراع بين الصهيونية ( اليهودية والمسيحية ) وأعدائها ، فإن كل حسابات التعامل مع أسباب ونتائج هذه الفتنة ، ستبقى حسابات خاطئة ومتعثرة ، إن ما حدث فى لبنان كان نتيجة ولم يكن سبباً ، كان أداة ولم يكن هدفاً .

لم يكن ما حدث نتيجة لاستحالة التعايش الإسلامى – المسيحى ، ولكنه سبباً لنجاح هذا التعايش ، فالذين ساءهم نجاح التجربة اللبنانية عملوا على ضربها .
ولم يكن ضرب هذه الصيغة هدفاً فى حد ذاته ، بل أداة لضرب هدف أكبر ، هو التفاهم الإسلامى المسيحى ضد الصهيونية .

ليست هناك تعليقات: